أنينٌ يتوضأ بالغياب

في يوم شديد الحرارة ورطوبة تخنق أنفاسي استوقفني مشهد ذاك الرجل المسن الذي يقف على ارصفةً الطرق يحاول بيع حصاد زرع انهك جسده الهزيل ماحاله في جو يأبي الطير ان يتنفس فيه أقول لكم ماحاله وهو يرسم أبتسامة على شفاه احرقتها حرارة الشمس من هو؟
هو من قومٌ اختاروا أن يسكنوا في البرزخ بين الحاجة والكبرياء. يعيشون مفارقة الوجود أجسادهم تطلب القوت، وأرواحهم تأبى الانحناء إنهم غرباء في عالم يقيس الكرامة بالامتلاك وهم يرون أن السؤال موتٌ بطيء للروح. يجوعون ولا يمدّون أيديهم، يصرخ الجسد في أعماقهم، لكن الصمت عندهم صلاة، والوجع تسبيح
قوتهم ليست في غياب الألم بل في قدرتهم على احتضانه دون أن ينكسروا أمام عين أحد. يخفون جراحهم كما يُخفي البحر عواصفه تحت سطحٍ هادئ، ويبتسمون لأن الابتسامة عندهم آخر ما تبقّى من السيادة على الذات ينامون على وسادة الكبرياء وإن كانت من شوك لأن السجود لغير الله عندهم موت لا رجعة فيه
هؤلاء لا يعرفون لغة الاستجداء بل لغة الانتظار يرفعون وجوههم للسماء ويقولون في صمت يا رب، إن أعطيت فبفضلك وإن منعت فبحكمتك فهم يعلمون أن الكرامة ليست زينة يتفاخرون بها، بل جدار يحمي أرواحهم من التهشّم
هم قومٌ لا يطلبون لأن أرواحهم اعتادت أن تسأل الله قبل أن تسأل الخلق جوعهم صلاة وصمتهم دعاء ودموعهم حروف منقوشة على أبواب السماء يختبئون خلف ابتسامة صلبة بينما قلوبهم تنزف في خفاء كأنهم يكتبون على الرمل أسرارهم فيجيء الموج ويمحوها قبل أن يراها أحد.
يضعون رؤوسهم على وسادة الكبرياء وإن كانت من شوك زد لأنهم يعلمون أن الانحناء لغير الله موت الروح يُخفون جراحهم تحت معاطف الضوء ويرتّلون في الليل: يا رزّاق لا تذلّنا بسؤال أحدٍ سواك
هم سُلالة من الصبر وأحفاد الكبرياء الذي ينهل من نهر الغيب يشربون من كأس الألم كأنه شهد من كأس الرضا ويغفون على أمل أن يأتي الفرج كما يأتي الفجر بعد ليلٍ طويل
هُمُ الذين يختبئون في فجوةٍ بين الأرض والسماء لا يطلبون شيئًا، لأن الطلب عندهم سقوطٌ عن سلالم النور يجوعون لكن جوعهم سرٌّ يقتات على صمتٍ أزلي ويظمأون لكن ظمأهم ماءٌ يسري في أنهار الخفاء.
أرأيت كيف يحملون العالم في صدورهم كأنه جرحٌ لا ينزف إلا في لغة الأرواح؟ يبتسمون وتحت الابتسامة ليلٌ ممتدٌّ من الوجع ليلٌ لا ينتهي إلا حين ينهض الفجر من كفّ الغيب
ينامون على شوك الكبرياء كأن الشوك وردة لا تراها إلا العين التي غسلتها الدموع لا ينحنون لأن الانحناء عندهم موتٌ للمعنى والمعنى هو الروح والروح لا تسجد إلا لمن خلق الضوء
هم صمتٌ يمشي دعاءٌ يتنفس وهمسٌ يكتب على جدران الليل يا من يسمع ما لا نقول أعطنا كي لا نمدّ أكفّنا إلى غيرك واجعل حاجتنا إليك وحدك لأنك وحدك تعرف كيف يثمر الألم.
اكتشاف المزيد من صحيفة جواثا الإلكترونية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.