فلسفة الامتنان: حين يتذكّر القلب ما لا يقوله العقل

سلوى محمد -

الامتنان، في جوهره، ليس خُلقًا عابرًا ولا مجاملة اجتماعية تُقال حين يحسن الآخر، بل هو موقفٌ وجودي، تأمّلي، ينشأ في أعمق نقطة من كينونة الإنسان حين يتوقف لحظةً، وسط ضجيج الحياة، ليرى ما لا يُرى… ويشعر بما لم يكن ينتبه إليه.

في غمرة الركض نحو الأحلام، نحو الكمال، نحو “الأكثر” دائمًا، يغيب عنّا شيء صغير، بسيط في مظهره، لكنه يحمل سرّ توازن الروح: أن نكون ممتنّين.

الامتنان هو الفلسفة الوحيدة التي لا تحتاج إلى معلم خارجي، بل إلى معلم داخلي، ينقر على جدار القلب ليقول: “توقف… انظر… كل ما تملكه الآن كان يومًا ما أمنية”. هو وعي متقد بأن كل لحظة تمرّ ليست مجرد وقت يُستهلك، بل حياة تُمنح.

ليست الفلسفة دائمًا في الأسئلة الكبرى، في “من نحن؟” أو “إلى أين نمضي؟”… بل في تلك الالتفاتات البسيطة التي نغفلها: أن تتذكّر يدًا أمسكت بك حين كدت تسقط، صوتًا واساك حين خذلك الجميع، لقاءً عابرًا غيّر مسار أيامك دون أن تدري. الامتنان هو أن تقرّ، في أعماقك، بأنك لست وحدك من صنع كل ما وصلت إليه.

إنها معجزة أن يستيقظ الإنسان كل صباح قادرًا على الرؤية، على التنفّس، على الحلم، على المحاولة، ومع ذلك لا يقول “شكرًا” إلا حين يحدث شيء استثنائي. لماذا نؤجل الامتنان حتى تُفقد النعم، وكأنها لا تستحق الامتنان إلا حين تُنتزع؟

فلسفة الامتنان لا تُعلّمنا فقط كيف نُقدّر الآخرين، بل كيف نتصالح مع أنفسنا. أن تكون ممتنًّا يعني أنك قبلت رحلتك، بما فيها من خيبات ومكاسب، من جراح ومعجزات.

أن تقول: “أنا ممتن”، يعني أنك لا تُنكر الألم، بل تفهم وظيفته. تعرف أن كل سقطة كانت درسًا، وأن كل حرمان كان توجيهًا، وأن كل تأخير كان لطفًا لم تُدرِكه وقتها

الامتنان لا يعني التنازل، ولا الاستسلام، بل هو شكل من أشكال الشجاعة. شجاعة الاعتراف بأنك لم تصل وحدك. بأنك كنت ضعيفًا ذات مرة، وأن شيئًا ما — أكبر منك — ساندك، حتى دون أن تطلب.

ربما كان الامتنان أرقى أشكال الفهم… فهم الحياة، فهم النفس، فهم الآخرين. هو فلسفة تعيد ترتيب المشهد: لا بمنظار النقص، بل بمنظار الوفرة، لا بلغة “ما لم يحدث”، بل بما “حدث بالفعل” من خيرٍ، ولو كان صغيرًا.

فليكن فينا متّسع يوميّ للامتنان. لا لأنه واجب… بل لأنه يُنقذنا من قسوة الحياة، ويذكّرنا أننا — رغم كل شيء — ما زلنا نحمل ما يكفي من النور، لنكمل الطريق.


اكتشاف المزيد من صحيفة جواثا الإلكترونية

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى