التخلّي ..

هناء الخويلدي -

حين يتحوّل الإنسان إلى ظلّ يمرّ ولا يُرى، التخلّي ليس حدثاً واحداً ولا لحظة عابرة تنتهي عند كلمة الفراق إنه سلاح ذو حدّين قد يكون طوق نجاة وقد يكون موتاً بطيئاً يتوغّل في الروح حتى يشلّ قدرتها على التمييز ويترك الإنسان معلّقاً بين ما كان يجب أن يبقى وما كان يجب أن يرحل

هو جرح الطفولة الذي لم يلتئم منذ الطفولة يرافقنا ذلك الشعور الخفي ألا نكون كافيين ألا نُرى كما نحن بل كما يُفترض أن نكون ليُرضي وجودُنا أهواء الآخرين طفلٌ يُسكَت لأنه حساس ويُلام لأنه يبدي رأيه ويُقصّى لأنه لا يشبه “الصورة” التي يرغبون بها وحين يقول “لا” للمرة الأولى يُصبح قابلاً للتخلّي… كأن وجوده مشروطٌ بالطاعة لا بالحقيقة

هذا الجرح المبكر لا يغادر حين نكبر بل يصبح بوابة لكل تخلٍّ لاحق تخلّي الكبار… صورة أكثر حدّة من خيبات الصغار

كبرنا لكن العالم لم يكُن دائماً أكثر رحمة تخلّى عنّا من أراد أن يشكّل أرواحنا وفق مزاجه ومن لم يحتمل اختلافنا ومن ظنّ أننا وُجدنا لنوافقه الرأي ونحمل أحلامه بدلاً منه.
تخلّوا بكل برود كأننا قطعة رثّة شيء يمكن الاستغناء عنه بلا دمعة بلا تقدير بلا شفقة على تضحيات عشناها بعمقٍ يعادل أعمارنا.

كيف يُتخلى عن إنسان ملأ الأماكن الفارغة وحمل عن الآخرين همومهم؟ كيف يهون قلبٌ فتح أبوابه للجميع فيُغلقون في وجهه كل الأبواب؟ كيف يُمحى تاريخٌ كامل بقرارٍ واحد… وكأن الروح ليست كائناً يشعر بل غرضٌ يمكن استبداله؟

ذلك التخلّي حين يحدث يشبه صقيعاً داخلياً يجمّد الحركة الشعورية ويشلّ البصيرة ويجعل النفس تتساءل: هل ما أشعر به يستحق أن يُسمّى حياة؟ وهناك الجانب الآخر للسيف التخلّي كنجاة

ومع هذا لا يمكن إنكار الحقيقة الأخرى أن بعض أنواع التخلي هي رحمة متخفية نعم هناك أشخاص يجب أن نتركهم أماكن يجب أن نغادرها علاقات يجب أن تنتهي… لأن بقاءها يسرق منا الحياة التي نستحقها أحياناً يكون التخلي هو الفعل الأكثر حباً للذات والخطوة الأولى نحو حياة كريمة لا يُساوم فيها أحد على كرامتنا أو قيمتنا.

فماذا نقول عن فعل التخلّي؟ يقال عنه إنه يكشف معدن الناس يُري الإنسان من كان يتعامل معه لذاته ومن كان يحاول تشكيله على مقاسه وأهوائه ايقال عنه إنه يعرّي القلوب ومن يملك الرحمة ومن يخلو منها ويكشف قدرتنا على البقاء وعمق قوتنا حين نقف بعد الانكسار.

لكن في فلسفته الأعمق التخلّي ليس علامة على أن الإنسان لا يستحق… بل علامة على أن الآخر لم يكن أهلاً لاحتضانه
وأن خسارتهم ليست نهاية القيمة بل نهاية الوهم إن في التخلّي… إعادة تشكيل الروح

وفي النهاية لا يعرّف التخلّي هويّتنا لكنه يعيد ترتيبها يقال عنه إنه امتحانٌ للإنسان هل سينهار؟ أم سيقف على قدميه؟

يسقط من لم يكن له مكان حقيقي في حياتنا ويمنحنا فرصة لنعود إلى أنفسنا كما كنا قبل أن يحاول الآخرون تشكيلنا
وما يبقى بعد الألم… هو روحٌ أكثر نقاءً ووعيٌ أعمق وقلبٌ يعرف أن من يتخلّى بلا رحمة إنما يفضح ذاته لا من تخلّى عنه.


اكتشاف المزيد من صحيفة جواثا الإلكترونية

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى