حين تتحول الشكوى إلى وباء صامت

منهال الجلواح -

التذمر يشبه غيمة رمادية تتسلل إلى سماء العلاقات، تحجب نور التفاؤل وتترك خلفها ظلًّا من الضيق. ليس مجرد كلمات تُقال، بل هو موقف داخلي ينعكس على من حولنا، يسرق منهم السكينة ويبدد طاقاتهم. في كل مكان المنزل ، جمعة الأهل و الأصدقاء بيئة عمل أو أي دائرة اجتماعية، هناك من يحوّل التفاصيل الصغيرة إلى نهر لا ينقطع من الشكوى والتذمر ( التحلطم ) . وكما قال أحد الفلاسفة: “من ينظر طويلًا إلى الهاوية، فإن الهاوية تنظر إليه أيضًا”؛ والتذمر هو تلك الهاوية التي تبتلع الأمل وتعيد تشكيل النفوس.

دوامة نفسية
التذمر يزرع بذور القلق في القلوب، ويحوّل الحديث إلى دائرة مغلقة من السلبية. ومع تكراره، يصبح كصدى يملأ المكان، فلا يُسمع صوت للحلول ولا مجال للتفاؤل. الغزالي عبّر أن كثرة الشكوى تضعف القلب وتزيده تعلقًا بالعجز، وكأنها قيود غير مرئية تُكبّل الروح.

التواصل المكسور
كثرة التذمر تجعل الآخرين يبتعدون، خشية أن تغرقهم موجة السلبية. فيضعف التواصل، وتتشقق الروابط الإنسانية. ابن خلدون يرى أن العادات تنتقل بالعدوى، فإذا كان التذمر عادة، فإنه سرعان ما يصبح وباءً اجتماعيًا يضعف الجماعة ويثقلها.

في بيئة العمل
التذمر أشبه برياح معاكسة تعرقل السفينة. يشيع شعورًا بعدم الرضا، ويقلل من الحماس الجماعي، ويزرع الشك في جدوى الجهود المشتركة. ماركوس أوريليوس كان يرى أن الانشغال بما لا نستطيع تغييره يبدد الطاقة ويعطل الإنجاز، وهذا ما يفعله التذمر حين يحوّل الجهد من البناء إلى الشكوى.

المتذمر وأسْرُه الداخلي
المتذمر يعيش في دائرة مظلمة، يكرر النظر إلى المشكلة حتى تصبح مرآته الوحيدة. يفقد فرص النمو، ويظل أسيرًا لظل داخلي لا يزول. وكما قال نيتشه: “من يملك سببًا يعيش من أجله، يمكنه أن يتحمل أي شيء”؛ لكن المتذمر يفقد هذا السبب، فيغرق في تفاصيل لا تنتهي.

كيف نحمي أنفسنا من عدوى التذمر؟
– الوعي: إدراك أن التذمر عادة يمكن أن تنتقل إلينا إذا لم ننتبه.
– التوازن: الإصغاء بقدر، لكن مع وضع حدود واضحة لحماية طاقتنا.
– التوجيه: محاولة تحويل الشكوى إلى نقاش حول الحلول بدلًا من الاكتفاء بالاعتراض.
– الانسحاب الذكي: أحيانًا يكون الحل هو تقليل التواصل، حفاظًا على الصحة النفسية.

همسة أخيرة
إذا وجدت نفسك محاطًا بالمتذمرين، تذكّر أن الحياة قصيرة، وأن السعادة لا تُمنح لمن يستهلكها في دوامة الاعتراضات. لا تسمح لعدوى السلبية أن تسلبك نورك الداخلي. اجعل صوتك موجهًا نحو الحلول، فكما قال الغزالي: “النفس كالطفل، إن تهمله شبّ على حب الرضاع”؛ فإن لم نوجّهها نحو الأمل، ستظل أسيرة التذمر والشكوى.

منهال الجلواح
مستشار تدريب وتطوير


اكتشاف المزيد من صحيفة جواثا الإلكترونية

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى