نحنُ الكُتاب: “بين جشع الدور وضياع الكلمة”

أين نحن من الأدب؟

سلوى محمد -

كنتُ أظن، حين وضعتُ قلمي أول مرة على الورق، أن الكلمة وحدها كفيلة بأن تفتح الأبواب، وتوقظ العقول، وتُكرم صاحبها. كنت أظن أن دور النشر، التي تحمل اسم “الناشر”، هي حاضنات الأدب، ورايات الفكر، وشركاء الحرف في رحلته الشاقة نحو النور. لكنني، ويا للأسف، ما وجدت إلا أبواباً موصدة، وأيدٍ لا تُصافح الكاتب، بل تُمدّ فقط لتأخذ.

صرنا نتسوّل من أجل نشر أعمالنا. نُراسل، ننتظر، نفاوض، نساوم، ونتنازل. نقدّم عصارة أعمارنا، ونُقابل بعقود تُلزمنا بالدفع لا بالنشر، وببنود تُحيل الكاتب من صاحب الكلمة إلى زبون على طاولة المقامرة. وكأن الحرف لم يعُد يستحق أن يُحترم إلا إذا كان وراءه حسابٌ مصرفيٌّ ممتلئ. أصبح المعيار جيب الكاتب، لا جهد قلمه.

دور النشر اليوم – إلا من رحم ربي – تحوّلت إلى مؤسسات تجارية لا تختلف عن المتاجر، تبحث عن الربح السريع لا عن القيمة، تُروّج لمن يملك أتباعًا على وسائل التواصل، لا لمن يملك رؤية أو موهبة. الكاتب الحقيقي – ذاك الذي يكتب من عمق قلبه وروحه – بات غريبًا في سوق لا يعترف إلا بالضجيج. والكتاب لم يعُد ثمرة فكر، بل سلعة، تُسوَّق كالعطر، ويُحكم عليها من الغلاف لا المضمون.

كم من كاتب خَبِرَ مرارة الانتظار، وطُرد بأدب من عتبة دور النشر لأنه لا يحمل “ميزانية”. وكم من عمل مات في المهد لأنه لم يجد جهة تؤمن به. بل إن بعض الدور باتت تُجيد استغلال شغف الكاتب، فتعرض عليه “حلم النشر” مقابل آلاف، لا مقابل تقديرٍ أدبيّ أو شراكة فكرية. نحن نكتب، وهم يبيعوننا أوهامًا مغلفة بطباعة فاخرة لا تُطعم جوع الحرف.

لست أكتب هذا الكلام غضبًا عابرًا، ولا مرارة ذاتية فحسب، بل أنقل وجع جيلٍ كامل من الكُتّاب الذين
لا يملكون إلا أقلامهم، ولا يجدون من يحتضن إبداعهم. أناشد الجهات المعنية، وزارة الثقافة، والهيئات الأدبية، واتحادات الكتّاب، أن تنظر في حالنا بعين المسؤولية، وأن تضع حداً لفوضى النشر التجاري، وأن تنقذ الأدب من موتٍ بطيء على أعتاب الجشع.

إن لم نُكرِم الكاتب في بلده، وإن لم نُعِد للكتاب مكانته، وإن لم تكن هناك مؤسسات تتبنى المواهب لا محافظهم البنكية، فماذا سنترك لأجيالٍ تبحث عن قدوة؟

لقد آن الأوان أن نُعيد صياغة علاقة الكاتب بالناشر، ونُفرّق بين مَن يطبع الكتب، ومَن ينشر الأدب. فالفرق شاسع، وشرف الكلمة لا يُقاس بعدد النسخ، بل بصدق النية واحترام الفكرة.

لستُ ضد أن يكون للنشر وجهٌ اقتصادي، ولكنني ضد أن يُختزل الأدب في سوقٍ لا يرحم. ضد أن يُذل الكاتب حتى يُقرأ. ضد أن تُحاصر الكلمة، حتى تدفع فدية خروجها.

نحن لا نطلب امتيازًا، بل عدلًا. لا نطلب صدقة، بل إيمانًا. فهل من مجيب؟ فهل من مجيب؟ فهل من مجيب؟


اكتشاف المزيد من صحيفة جواثا الإلكترونية

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى