الزهايمر… صمتٌ يأكل الذاكرة ويختبر إنسانيتنا

هناء الخويلدي -

قد يظن البعض أن المرض هو ألم جسدي ينهك الجسد ويترك أثره على الملامح لكن هناك أمراضًا تتسلل بصمتٍ إلى أعماق الروح قبل أن تُنهك الجسد الزهايمر واحدٌ من تلك الأمراض التي لا تُرى بالعين ولا تُقاس بالحرارة أو ضغط الدم بل يُقاس بمدى ما يسرقه من الإنسان ذاكرته ماضي هويته، وحتى تفاصيل ذاته الصغيرة.

ربما يعيش مريض الزهايمر في دوائر من الذاكرة تارةً يعود إلى طفولته وتارةً يضيع في متاهات لا أسماء فيها ولا وجوه واضحة
قد يشعر بالحيرة أكثر مما يشعر بالألم وكأن الزمن يلعب معه لعبة الاختفاء والظهور.

هو يبحث عن ذاته بين تفاصيل تتناثر كأوراق خريف فيلتقط ورقة ثم تسقط أخرى فلا يبقى إلا إحساس غامض بالحنين.
أما ألمه فقد لا يُترجم بالكلمات بل بنظرةٍ شاردة أو دمعةٍ بلا سبب أو ارتجافة يد تبحث عن يدٍ أخرى تُشعره بالطمأنينة.

الأيام عنده قد تكون مجرد لحظة متكررة بلا بداية ولا نهاية كساعة تدور بلا عقارب لكن روحه ربما تجد ملاذها في الحب الذي يحيط به، في صوت مألوف أو لمسة حانية تعيد إليه ولو للحظة يقينه بأنه ليس وحيدًا

الزهايمر ليس مجرد فقدانٍ للذاكرة بل هو انطفاء بطيء لمصابيح الوعي يبدأ على هيئة نسيانٍ عابر ثم يتحول إلى تيهٍ كامل حتى يغدو المريض غريبًا في بيته غريبًا بين أحبته بل غريبًا عن نفسه إنّه المرض الذي يمحو الملامح من الذاكرة لكنه يترك أثر الحيرة والألم في العيون.

تخيّل أن تستيقظ ذات صباح فلا تعرف اسمك أو أن تنظر إلى وجه أقرب الناس إليك فلا تستطيع أن تذكر صلته بك أيّ ألمٍ أشدّ من أن تفقد ذاتك وأنت ما زلت حيًّا؟ إن الزهايمر يترك الإنسان حيًّا جسديًا لكنه يسلبه خريطة وجوده الداخلي فيبقى في صراعٍ دائم بين ما يشعر به قلبه وما لا يتذكره عقله.

ورغم أن المريض يبدو هادئًا في ظاهره إلا أن داخله عالمٌ من القلق والضياع يعيش لحظةً ثم ينساها يفرح بابتسامةٍ ثم تتبخر من ذاكرته يمسك بخيطٍ من الماضي لكنه ينفلت سريعًا من يديه الزهايمر هو عاصفة بلا صوت وانكسار بلا ضجيج.

لكن السؤال الأعمق كيف نتعامل نحن الأصحاء نسبيًا مع مريض الزهايمر؟ الجواب لا يكمن في المنطق ولا في المطالبة بما لم يعد يملكه بل في الحنان الزهايمر يعلّمنا درسًا فلسفيًا قاسيًا أن القيمة الحقيقية للعلاقة ليست في الحوار أو الذكريات المشتركة بل في لحظة الحضور الإنساني المريض قد ينسى اسمك لكنه يشعر بدفء يدك إن أمسكت بها قد لا يتذكر كلماتك لكنه يستشعر نبرة الحنان في صوتك قد يضيع في عالمٍ لا أسماء فيه لكنه يعرف بالأحاسيس من يحبه ومن يهمله.

معاملة مريض الزهايمر ليست مهمة طبية فحسب بل امتحان لجوهر إنسانيتنا علينا أن نكرر بلا ضجر أن نبتسم بلا ملل أن نعيد بناء الجسر في كل مرة ينهار فيها عقله الحب وحده قادر على اختراق هذا الصمت والحنان وحده يمنح المريض يقينًا داخليًا بأنه ما زال موجودًا حتى وإن خانته ذاكرتهه

الزهايمر قد ينخر خلايا العقل لكنه لا يملك أن يطفئ نور الروح تلك الروح التي تبقى قادرة على الإحساس بالمحبة قادرة على التعلق بالدفء حتى وإن تاهت عن تفاصيل الحياة.

فلنجعل من صبرنا معه لغةً ومن حناننا دواءً، ومن حضورنا عزاءً. فربما لا يذكرنا غدًا لكنّه سيشعر اليوم أننا أحببناه. تحدث إليه كما لو كنت تغني لروحٍ متعبة لا كما تخاطب عقلًا حاضرًا أعد الكلمة أو المعلومة وكأنك تزرع بذرة كل مرة ولا تملّ من إعادة الغرس اجعل بيئته بسيطة وواضحة لأن كثرة التفاصيل تزيد من ضياعه لمسة يد حنونة أحيانًا أبلغ من ألف كلمة الحب لا تنتظر منه ردًا كاملًا فالمحبة هنا فعلُ عطاءٍ لا صفقة تبادل.

إن الزهايمر وإن كان مرضًا صامتًا يفتك بالذاكرة إلا أنه في جوهره اختبارٌ لإنسانيتنا هل نحب لذات الحب أم فقط حين يُبادَلنا الآخر بالحب نفسه؟


اكتشاف المزيد من صحيفة جواثا الإلكترونية

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى