رواية البؤساء هي أعظم ما كتب الأدب العالمي عن المأساة الإنسانية بحسب رأي عملاق الأدب الروسي تولستوي، قد يتساءل بعضهم ما هي أوجه عظمة هذه الرواية التي جعلتها تتصدر قمة الروايات العالمية؟
البؤساء للفرنسي العالمي فيكتور هوجو التحفة التي عجز العقل الأدبي أن يكرر مثلها …
أن رواية البؤساء أختيرت من قبل مجموعة من النقاد والأدباء من ضمن المئة الخالدة في التاريخ الأدبي بل بعضهم اختارها من العشرة الأعظم، بل إن بعضهم اعتبرها أعظم عمل أدبي في التاريخ لكن هذه المسألة نسبية وتخضع للذائقة الأدبية ولمحتوى العمل تقنيا من عناصر وأصول وأدوات وتقنيات الكتابة الأدبية الإبداعية.
وإذا أردنا أن نتكلم عن أهمية البؤساء او سبب عظمتها وتقدمها على غيرها فإننانحتاج الى كتابة مؤلَّف خاص متكامل ونحتاج الى وقت طويل ولكننا سنشير مجرد إشارات لعلها تكون كافية لجوانب معينة مضيئة.
وهذا ما يجعل القارئ يتفهم ويستوعب العمل بأدبيته الكاملة.
الحقيقة أن الترجمة تفقد روح النص وتذيب نكهته وتسلبه جزءا من كيانه وحياته.
وإنني أشير لبعض الإضاءات:
-الديناميكية المقننةالتي استخدمها هوجو في نمو الشخوص في عمله مع المراعاة المحسوبة لنمو الوعي النفسي لكل شخصية من شخوصه؛حتى يكاد يشعر القارئ أنه يعرف هذه الشخصيةعن قرب أو أنه عايشها رغم مرور هذا الزمن الطويل عليها مع اختلاف العصر خاصة أنها من روايات القرن ١٩.
-العبقرية الخاصةالتي مزج فيها هوجو التجريب فيما قبل الحداثة بالواقعيةوسحب ذلك على السرد التاريخي بشكل أدبي محترف جذب فيه الزمن كعنصر مؤثر في الحبكة وفي نمو الشخوص كما أشرت سابقا ؛وكمثال تطور ونمو شخصية جافيير ممثل العدالة، وانظر كيف ينمو الوعي الداخلي لشخصيته وصناعة ذلك الصراع الداخلي في مفهوم الحق نفسه وهل هو في مساندة الضعيف للحصول على آدميته أم في تطبيق القانون الجامد الذي يمثل العدالة بجموده؟!
وإذا كنا سنتكلم على الزمن فلننظر إلى الاحترافية في التعامل الزمني في سير الحبكة الفنية للقصة التي جعل هوجو الزمن يتقدم ويتأخر دون أن يشعر القارئ بذلك فهو يذهب قدما نحو الثورة ثم يتأخر قليلا بحثا عن القيم في رفع الظلم عبر الطفلة المعذبة عند الأسرة الشريرة تينارديه
-ثم ننظر لقوة تصميم الحبكة التي تتفرع من ثيمات مختلفة للعمل مع قوة في التحكم بسرعة العمل ما بين بطءمقصود في مثل حجز تينارديه للبطل جان فالجان بينما نجد السرعة ترتفع بشكل خطي حين كان في الكنيسة مع القس الطيب الذي غطى على جريمته..
وبين السرعة والبطء بخط نمو الحبكة تشعر كقارئ أنك دخلت في زمن وأحداث القصة كصانع لبعض الأحداث وهذا هو قمة الإبداع وذلك بقدرة هوجو العجيبة في تصوير المشاعر والاحاسيس المأساوية في القصة كأنك شخصيا تشاهدها أمامك أو تشعر بها فعليا وذلك ما دعا تولستوي للقول إنها أعظم رواية تصور المأساة الإنسانية فهذا التدفق القوي والدقيق في تصوير الحس وتغطية الوعي الداخلي للشخوص بشكل جعل النقاد والمحللين يشعرون أن هوجو خبر ودرس الوعي الداخلي للقارئ نفسه(متغير بحسب طبقته وثقافته) مما أشعر كل قارئ للعمل أنه مقصود وأن السرد موجه له شخصيا وهذا كان من اعجازات هوجو الأدبية.
الكلام على ابداعات البؤساء كثيرة وطويلة والنقاد والأدباء كتبوا الكثير عنها فيما لايخفى وهي: تلك النهايات العجيبة لشخوص العمل علما أن العمل كُتب قبل ١٥٠ سنة تقريبا.
وحين ننظر لهذه الرسالة القيمة والعبقرية الفذة نلاحظ تلك النهايات العجيبة برسائلها الدقيقة التي تمثل الصراع بين الخير والشر ،بين العدالة والظلم بين روح القانون وروح الإنسانية، بين الكرامة الآدمية ومجرد الوجود القدري، من المنتصر في ذلك؟ لم تكن نهايةانتصار الخيركما يبدو لي وكما اعتدنا على القناعة به لكنه سار الى ذلك المنهج الحقيقي الواقعي الذي تسنده الرسائل السماويةفي أن الشر أكثر وأنه باق لاينتهي.
جان فالجان ممثل الخير والإنسانيةصاحب الإيثار والتضحيات والمأساة يموت بشكل دراماتيكي لكن الناظر لموتته وجثته يشعر بالاضطراب بين قبول ورفض جافيير ممثل القانون والعدالة يختنق في صراعه الداخلي بين الوعي واللاوعي وبين حق الضمير القانوني وحق الضمير الإنساني فيموت منتحرا دلالة على الاضطراب ونتيجة الجمود الإنساني أمام تحوير القانون العلوي للنزول للضمير الإنساني للطبقة السفلية؛ القانون والإنسانية يموتان!! الابناء الصالحون للمجرم الشرير” تينارديه” بعد صراع نفسي وجودي بين القيم الخيرة والواقع الشرير تنتهي حياتهم بالموت والانتحار.
الأدهى من ذلك؛ أن رمز الشر والجريمة والرذيلة والخبث والدهاء والعمل في الظلام “تينارديه” كانت نهايته الانتقال من أوربا الى أمريكا في رمزية عبقرية تحتاج تفكيراً وتأملا، كتبها في القرن ١٩ قبل ظهور أمريكا كقوة عظمى تتحكم في سياسات العالم وتبث الخراب والدمار في أنحاء العالم إذا كان ذلك يحقق مصلحتها، البلد الذي يعطي الحرية لكل إنسان نبيلا كان أو مجرما طالما يخدم البلد، إنها أمريكا التي تغض الطرف عن الظلم الذي يخدمها. يتوجه لها هذا المجرم الشرير في إشارة أخرى الى أن الشر لا ينتهي، ولايموت إنما ينتقل من مكان لآخر ليتشكل بشكل جديد يعيث الفساد في العالم وليبقى يشعل جذوة الفساد الذي يدمي الإنسانية المقهورة دوما.
هذه الرسالة من خلال هذه المفارقة العجيبة التي جمعت بين الواقع والخيال وقاربت القانون السماوي بالواقع الإنساني الأرضي كانت من أروع وأعظم الأفكار المستخدمة فيها التقنيات الادبية المميزة من تنبؤ، وقراءة في زمن اللاوعي الادراكي للقارئ والراوي والشخوص تضفي على العمل أهميته الأدبية الكبرى وإنجازا فكريا فلسفيا يُحسب لبعد نظر الكاتب.