هل يوجد أقوى من الشوق حين نعانده ونصده؟
كلما كنّا نَعْلَقُ في مشاعرنا مع من نحب ،نجد لوعة الفراق أقوى بكثير منّا، وكلما وضعنا منضدة الحياة لنقفز على حواجز تلك اللحظات وجدنا ماهو أقوى. إرادتي أقودها لا تقودني ،وحقيقتي بالتجارب تُكْتَشَفُ ،رغم الوعكات التي نتنصل عنها بيد المرارة في (اللواعج) وعبر “أنياط القلب” تترجم الأوجاع حالتين إحداها أن أعي قدرتي على تجاوز ما لا يد لي عليه ، والأخرى ترجمان الفكرة بإقناع نفسي أني عاجز.
أي عجز أتحدث عنه ؟
إنه الشوق الذي يأسر إرادتنا فيمن نحب ،وبالأخص من رحلوا عنا!!. الراحلون: هم الأقوى في شدنا إليهم كلما تفتقدنا كل الأشياء التي تجمعنا بهم حتى الأمكنة . فالناس أصناف الموقف عند هذا : منهم من (يهتم) ،فيعبر عما تترجمه أحاسيسه وفق إمكانياته وقدراته ،وصنف ٌ ( لا يهتم ) حتى بدت له العلاقات الإنسانية عوابر بلا قداسة لها وصنف آخر ( لا يعلم ) من أي صنف ولا يظهر عليه سوى التيه. يقول الجاحظ في كتاب البخلاء في الجزء الأول
صـ ٢٠ـ:( أوليس لو أظهر الجهل والغباوة ،واتتحل الغفلة والحماقة ،ثم احتج بتلك المعاني الشداد ،وبالألفاظ الحسان وجودة الاختصار ،وبتقريب المعنى وبسهولة المخرج ،وإصابة الموضع ،لكان ما ظهر من معانيه وبيانه ،مكذبا لما ظهر من جهله ونقصانه ؟ ولم جاز أن يبصر بعقله البعيد الغامض ،ويعيا عن القريب الجليل؟.). قد توقفنا الحادثة في حالة الطوارئ الداخلية ( كما ترى الفكرة في منتهى القوة وقد تحدد مصير الإنسان في كافة أركان حياته ..) قوة التفكير د.إبراهيم الفقي صـ ٧٦ــ.
فكل (المظاهر للقيود اللسانية)، أو في (الملامح) التي ترسم على أنماطنا إما القبول ،أو الرفض ،أم نكون في حالة التية تضعنا في هالة من إقبال النفس أو إدبارها حتما. قال تعالى : وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ] البقرة١٥٦-١٥٤.
لنقف لحظة مع أسوة حسنة ،ونتساءل !
ﻣﺎﻫﻮ ﺻﺒﺮ ﺃﻳﻮﺏ ؟
ﺃﻳﻮﺏ ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺴﻼﻡ : ﺃﺗﺎﻩ ﺍﻟﻠﻪ ﺳﺒﻌﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﺒﻨﻴﻦ ﻭﻣﺜﻠﻬﻢ ﻣﻦ ﺍﻟﺒﻨﺎﺕ ،ﻭآﺗﺎﻩ ﺍﻟﻠﻪ ﺍﻟﻤﺎﻝ ﻭاﻷﺻﺤﺎﺏ ،ﻭﺃﺭﺍﺩ ﺃﻥ ﻳﺒﺘﻠﻴﻪ ﻟﻴﻜﻮﻥ ﺍﺧﺘﺒﺎﺭﺍً ﻟﻪ ﻭﻗﺪﻭﺓ
ﻟﻐﻴﺮﻩ ﻣﻦ ﺍﻟﻨﺎﺱ ! ،ﻓﺨﺴﺮ ﺗﺠﺎﺭﺗﻪ وﻣﺎﺕ ﺃﻭﻻﺩﻩ ﻭﺍﺑﺘﻼﻩ ﺑﻤﺮﺽ ﺷﺪﻳﺪ ﺣﺘﻰ أُﻗﻌﺪ ﻭﻧﻔﺮ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﻣﻨﻪ ﺣﺘﻰ ﺭﻣﻮﻩ ﺧﺎﺭﺝ ﻣﺪﻳﻨﺘﻬﻢ ﺧﻮﻓﺎً ﻣﻦ مرﺿﻪ ،ﻭﻟﻢ ﻳﺒﻘﻰ ﻣﻌﻪ ﺇﻻ ﺯﻭﺟﺘﻪ ﺗﺨﺪﻣﻪ ،ﺣﺘﻰ ﻭﺻﻞ ﺑﻬﺎ ﺍﻟﺤﺎﻝ ﺃﻥ ﺗﻌﻤﻞ ﻋﻨﺪ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﻟﺘﺠﺪ ﻣﺎﺗﺴﺪ ﺑﻪ ﺣﺎﺟﺘﻬﺎ وﺣﺎﺟﺔ ﺯﻭﺟﻬﺎ ! .
ﻭﺍﺳﺘﻤﺮ أﻳﻮﺏ ﻓﻲ ﺍلإبتلاء ﺛﻤﺎﻧﻴﺔ ﻋﺸﺮ ﻋﺎﻡ ﻭ ﻫﻮ ﺻﺎﺑﺮ وﻻ ﻳﺸﺘﻜﻲ ﻷﺣﺪ ﺣﺘﻰ ﺯﻭﺟﺘﻪ .. ﻭلما ﻭﺻﻞ ﺑﻬﻢ ﺍﻟﺤﺎﻝ إﻟﻰ ﻣﺎﻭﺻﻞ ﻗﺎﻟﺖ ﻟﻪ ﺯﻭﺟﺘﻪ :ﻳﻮﻣﺎً ﻟﻮ ﺩﻋﻮﺕ ﺍﻟﻠﻪ ﻟﻴﻔﺮﺝ ﻋﻨﻚ. ﻓﻘﺎﻝ: ﻛﻢ ﻟﺒﺜﻨﺎ ﺑﺎﻟﺮﺧﺎﺀ ﻗﺎﻟﺖ80 : ﺳﻨﺔ ﻗﺎﻝ : إﻧﻲ أﺳﺘﺤﻲ ﻣﻦ ﺍﻟﻠﻪ ﻷﻧﻲ ﻣﺎﻣﻜﺜﺖ ﻓﻲ ﺑﻼﺋﻲ ﺍﻟﻤﺪﺓ ﺍﻟﺘﻲ ﻟﺒﺜﺘﻬﺎ ﻓﻲ ﺭﺧﺎﺋﻲ ،ﻭﺑﻌﺪ ﺃﻳﺎﻡ .. ﺧﺎﻑ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﺃﻥ ﺗﻨﻘﻞ ﻟﻬﻢ ﻋﺪﻭﻯ ﺯﻭﺟﻬﺎ ﻓﻠﻢ ﺗﻌﺪ ﺗﺠﺪ ﻣﻦ ﺗﻌﻤﻞ ﻟﺪﻳﻪ.
ﻗﺼﺖ ﺑﻌﺾ ﺷﻌﺮﻫﺎ ﻓﺒﺎﻋﺖ ﻇﻔﻴﺮﺗﻬﺎ ﻟﻜﻲ ﺗﺂﻛﻞ ﻫﻲ ﻭﺯﻭﺟﻬﺎ ،ﻭﺳﺄﻟﻬﺎ ﻣﻦ ﺃﻳﻦ ﻟﻜﻲ ﻫﺬﺍ ﻭﻟﻢ ﺗﺠﺒﻪ ﻭ ﻓﻲ ﺍﻟﻴﻮﻡ ﺍﻟﺘﺎﻟﻲ ﺑﺎﻋﺖ ﻇﻔﻴﺮﺗﻬﺎ ﺍﻷﺧﺮﻯ ﻭ ﺗﻌﺠﺐ ﻣﻨﻬﺎ ﺯﻭﺟﻬﺎ ﻭﺃﻟﺢ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻓﻜﺸﻔﺖ ﻋﻦ ﺭﺃﺳﻬﺎ ﻓﻨﺎﺩﻯ ﺭﺑﻪ ﻧﺪﺍﺀ ﺗﺄﻥ ﻟﻪ ﺍﻟﻘﻠﻮﺏ .. أﺳﺘﺤﻰ ﻣﻦ ﺍﻟﻠﻪ ﺃﻥ ﻳﻄﻠﺒﻪ ﺍﻟﺸﻔﺎﺀ ﻭ ﺃﻥ ﻳﺮﻓﻊ ﻋﻨﻪ ﺍﻟﺒﻼﺀ ﻓﻘﺎﻝ ﻛﻤﺎ ﺟﺎﺀ ﻓﻲ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﺍﻟﻜﺮﻳﻢ : ” ﺭﺑﻲ أﻧﻲ ﻣﺴﻨﻲ ﺍﻟﻀﺮ ﻭأﻧﺖ ﺃﺭﺣﻢ ﺍﻟﺮﺍﺣﻤﻴﻦ ” . ﻓﺠﺎﺀ أمر ﻣﻦ ﺑﻴﺪﻩ ﺍﻷﻣﺮ : ” ﺃﺭﻛﺾ ﺑﺮﺟﻠﻚ ﻫﺬﺍ ﻣﻐﺘﺴﻞ ﺑﺎﺭﺩ ﻭﺷﺮﺍﺏ “.
ﻓﻘﺎﻡ ﺻﺤﻴﺤﺎً ،ﻭﺭﺟﻌﺖ ﻟﻪ ﺻﺤﺘﻪ ﻛﻤﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﻓﺠﺎﺀﺕ ﺯﻭﺟﺘﻪ ﻭﻟﻢ ﺗﻌﺮﻓﻪ ﻓﻘﺎﻟﺖ: ﻫﻞ ﺭﺃﻳﺖ ﺍﻟﻤﺮﻳﺾ ﺍﻟﺬﻱ ﻛﺎﻥ ﻫﻨﺎ ؟ ﻓﻮﺍﻟﻠﻪ ﻣﺎﺭأﻳﺖ ﺭﺟﻼً ﺃﺷﺒﻪ ﺑﻪ ﺇﻻ أﻧﺖ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻛﺎﻥ ﺻﺤﻴﺤﺎً؟ ﻓﻘﺎﻝ : ﺃﻣﺎ ﻋﺮﻓﺘﻨﻲ ! ﻓﻘﺎﻟﺖ: ﻣﻦ ﺍﻧﺖ؟ﻗﺎﻝ: ﺃﻧﺎ أﻳﻮﺏ. ﻳﻘﻮﻝ ﺍﺑﻦ ﻋﺒﺎﺱ : ﻟﻢ ﻳﻜﺮﻣﻪ ﺍﻟﻠﻪ ﻫﻮ ﻓﻘﻂ ﺑﻞ ﺃﻛﺮﻡ ﺯﻭﺟﺘﻪ ﺃﻳﻀﺎً ﺍﻟﺘﻲ ﺻﺒﺮﺕ ﻣﻌﻪ أﺛﻨﺎﺀ ﻫﺬﺍ ﺍﻻﺑﺘﻼﺀ ! ،ﻓأعادها ﺍﻟﻠﻪ ﺷﺎﺑﺔ ،ﻭ ﻭﻟﺪﺕ لأﻳﻮﺏ ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺴﻼﻡ ﺳﺘﺔ ﻭعﺸﺮﻭﻥ ﻭﻟﺪ ﻣﻦ ﻏﻴﺮ ﺍﻹﻧﺎﺙ ﻳﻘﻮﻝ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ : ” ﻭآﺗﻴﻨﺎﻩ ﺃﻫﻠﻪ ﻭ ﻣﺜﻠﻬﻢ ﻣﻌﻬﻢ” إذاً تَذَكّْر : ﻛﻠﻤﺎ ﻓﺎﺽ ﺣﻤﻠﻚ ﺗﺬﻛﺮ ﺻﺒﺮ ﺃﻳﻮﺏ ،ﻭأﻋﻠﻢ ﺃﻥ ﺻﺒﺮﻙ ﻧﻘﻄﺔ ﻣﻦ ﺑﺤﺮ ﺃﻳﻮﺏ .
ﻛُﻞِّ ﻳﻮﻡ ﺗﻘﻮﻝ الأﺭﺽ : ” ﺩﻋﻨﻲ ﻳا ﺭﺏ ﺃﺑﺘﻠﻊ ﺃﺑﻦ ﺁﺩﻡ ﺇﻧﻪ ﺃﻛﻞ ﻣﻦ ﺭﺯﻗﻚ ﯙﻟﻢ ﻳﺸﻜﺮﻙ “وﺗﻘﻮﻝ اﻟﺒﺤاﺭ : ” ﻳاﺭﺏ ﺩﻋﻨﻲ ﺃﻏﺮﻕ ﺃﺑﻦ ﺁﺩﻡ ﺇﻧﻪ ﺃﻛﻞ ﻣﻦ ﺭﺯﻗﻚ ﯙﻟﻢ ﻳﺸﻜﺮﻙ”وﺗﻘﻮﻝ اﻟﺠﺒاﻝ: ” ﻳا ﺭﺏ ﺩﻋﻨﻲ ﺃﻃﺒﻖ ﻋﻠﻰ ﺃﺑﻦ ﺁﺩﻡ ﺇﻧﻪ ﺃﻛﻞ ﻣﻦ ﺭﺯﻗﻚ وﻟﻢ يشكر “
وﺗﻘﻮﻝ اﻟﺴﻤﺂﺀ: ” ﻳا ﺭﺏ ﺩﻋﻨﻲ ﺃﻧﺰﻝ ﻛﺴﻔﺂً ﻹﺑﻦ ﺁﺩﻡ ﺇﻧﻪ ﺃﻛﻞ ﻣﻦ ﺭﺯﻗﻚ وﻟﻢ ﻳﺸﻜﺮﻙ “ﻓﻴﻘﻮﻝ اﻟﻠـّﻪ ﻋﺰ وﺟﻞ ﻟﻬﻢَ : ” ﻳا ﻣﺨﻠﻮﻗاﺗﻲ ﺀﺃﻧﺘﻢ ﺧﻠﻘﺘﻤﻮﻫﻢ ..؟ “.
ﻳﻘﻮﻟﻮا ” :لا يا ﺭﺑﻨا” ﻗاﻝ اﻟﻠـّﻪ جل جلاله: “ﻟﯚﺧﻠﻘﺘﻤﻮﻫﻢ ﻟﺮﺣﻤﺘﻤﻮﻫﻢ ” ﺩﻋﻮﻧﻲ ﻭﻋﺒﺎﺩﻱ ﻣﻦ ﺗاﺏ ﺇﻟﻲ ﻣﻨﻬﻢ ﻓﺄﻧا ﺣﺒﻴﺒﻬﻢ ،ﻭﻣﻦ ﻟﻢ ﻳﺘﺐ ﻓﺄﻧا ﻃﺒﻴﺒﻬﻢ ،ﻭﺃﻧا ﺇﻟﻴﻬﻢ ﺃﺭﺣﻢ ﻣﻦ اﻷﻡ ﺑﺄﻭلادها إذن : هل هناك أقوى من الشوق حين نعانده،ونصده؟.
قد يتخلى كل شيء عنك ،ويبقى الله معك ،فكن مع الله يبقى كل شيء معك!!.