
توافق في بداية القرن العشرين أن يكون رأي السياسيين القائمين على”وزارة المستعمرات” وخططهم في التوسع الذي شهدته الأمبراطورية البريطانية ومارسته تحت مسمى” الأنتداب “أو الوصاية على الشعوب والدول الأخرى أن يكون متماشيا ومتماهيا مع رجال الكنسية الذين باركوا “Crusades ” الحملات العسكرية والبعثات الدبلوماسية ورجالات الكنسية على الرغم من أختلاف مشاربهم إلا أنهم يعتقدون بنصوص” العهد القديم ” التوراة وترتب على هذا ” الطموح “وهذه”لبركة ” أن أستخدمت نصوص التوراة لتحقيق أهداف سياسية واحلام كنسية فتطابقت الأطماع السياسية والمزاعم الدينية فيما قالته النصوص التوراتية والتلمودية ) من هنا أصبحت المكانة والسيطرة لأتباع المدرسة التوراتية التقليدية في نظرتهم للتاريخ وقدرتهم على تحليل وتفسير أحداث من مضى من الأمم التي سبقتنا بما تشتهيه أسفار التوراة ونصوصها وهم كثر ومن خالف نصوص التوراة فهم قلة القلة ، وقد أبعد وأقصي من تجرأ وصرح معترضا وأصبحت المدرسة التوراتية للتاريخ هي المعترف بها وهي السائدة أكاديميا ، ومن اهم وأشهر رواد هذه المدرسة هو العالم والمؤرخ وليام ألبرايت ( William Albright ) وهو متخصص في علم الآثار و عمل مديرا للمدرسة الأمريكية للبحوث الشرقية في القدس( American School of Oriental Research) ما بين الفترتين (1921 -1929 , 1933-1936) وكان قبل ذلك أستاذا للدراسات السامية في جامعة جونز هوبكنز منذ عام 1929
لم يكن وجود ألبرايت في القدس الشريف منذ عام 1921 ، محض صدفة مع وجود أول مندوب سامي بريطاني فيها ( 1920-1925) وهو اليهودي الصهيوني هربرت صموئيل ، فقد باشرت حكومة الإحتلال البريطاني في اعمال التنقيبات الأثرية وركزت ذلك عبر إنشاء ” دائرة الآثار “ووضعت على رأسها عالم مشهور هو جون غارستاغ ( John Garstang) من جامعة ليفربول ( Liverpool) البريطانية فأزدهرت اعمال الحفر و التنقيب وكان أشدها ما بين ( 1921 -1936 ) حيث لم تكن تمر سنة من هذه السنين الخمسة عشر إلا وتم حفر موقع جديد وكان لألبرايت الدور الفعّال و المهم فيها وفي تسطير مدلولاتها ونتائجها ط يقول في كتابه ” آثار فلسطين ” ( The Archaelogy of Palestin)
” كانت هذه السنوات مثيرة لم يمر فيها شهر واحد إلا وشهدنا تقدما ملموسا نحو هدفنا البعيد لإنجاز مسح أثري شامل لتاريخ فلسطين ،،، حصل تقدم في مجال ما قبل التاريخ ، و إن هذا النوع من العلم لم يكن متطورا على الإطلاق الإ بعد 1920 فقد تغير الوضع ففي الفترة ما بين ( 1923-1928) ومن خلال عدة حملات تنقيب تم اكتشاف أوان فخارية و مبان حجرية تعود الى فترة العصرين البرونزي والحديدي ، وكانت هذه الأكتشافات كافية لتأكيد كونها بداية مملكة دَاوُدَ “
لم تكن هذه الحملة المسعورة في التنقيب عن آثار فلسطين بعيدة عن الأهداف التي جاء من اجلها المحتل ، فقد جاء في صك الأنتداب الذي تضمن وعد بلفور في مادته الثانية من مواده الثمان والعشرين ما نصه “سوف تهيئ حكومة الإنتداب الظروف السياسية والإدارية والإقتصادية التي تؤدي الى إنشاء وطن قومي لليهود وتطوير مؤسسات الحكم الذاتي وحماية الحقوق المدنية والدينية لجميع سكان فلسطين بغض النظر عن عرقهم او دينهم ” ، هذا من الناحية السياسية والإدارية ، تمشيا مع ما أشار اليه صك الإنتداب ” الرابط التاريخي “(Historical connections) بين اليهود المشتتين في العالم وبين ” أرض آبائهم ” لضمان وتشجيعا اليهود الى العودة الى ” أرض الميعاد ” وتحقيقا لمقولة زعيمهم حاييم وايزمان ” نحن لسنا بقادمين ولكننا عائدون ”
أما ما يخص رعاية الإنتداب للتنقيب عن الآثار فقد نصت عليه المادة الواحدة و العشرون من صك الأنتداب ، حيث نصت على ” خلال أثني عشر شهرا من تاريخه ، سوف تؤمن حكومة الإنتداب إصدار قانون الآثار ( Law of Antiquities ) وتتأكد من تنفيذه حسب القواعد ،،، وهذا القانون سوف يشترط المعاملة بالمثل فيما يتعلق بالتنقيب و البحث الأثري لجميع الدول الأعضاء في عصبة الأمم )
من هنا تكمن أهمية فترة خضوع فلسطين تحت “الإنتداب البريطاني ” من الناحية التاريخية ، فقد أتاح ذلك تسطير تاريخا متوهما للبشرية ما قبل كتابة التاريخ على أساس أنه تاريخا حقيقيا وذلك عبر تزوير و تحريف نتائج الحفريات الأثرية حسب النصوص التوراتية وبما لا يتعارض معها كما جرى سرقة الآثار الكنعانية في مراحلها المتعددة خصوصا المرحلة الفرعونية فيكفي وجود “أواني فخاريةً ” على حد زعمهم ، دليلا على وجود مملكة دَاوُدَ وبعده سليمان في ارض فلسطين وما كان لأحد غير “التوراتيين ” يستطيع تحليل وتفسير المقتنيات الأثيرية ودلالة حقباتها الزمانية ، فقد خضعت كلها لتثبيت مشروع وعد بلفور بإقامة ” وطن قومي لليهود على أرض فلسطين “ كما ثبت ذلك مسبقا بأنها ارض أجدادهم كما جاء في وعد بلفور ونصت علية بنود الأنتداب فتاريخنا ما بين اطماع محتل وخرافة تلمود
رياض الشيخ باقر البوخمسين
مكتبة جامعة هارفرد