قريباً من محطة القطار، يقبع منزل صغير، يقطنه فارس مع والده، بالكاد يكفيهما، وهو رغم ضيقه، مكتظ بأشياء فارس المبعثرة في كل الأرجاء، حتى السلم الخشبي، نال نصيبه من الاكتظاظ، فهو مليء بأشياء قديمة لاتستعمل، وبجانب بهو المنزل، سلم يمتد للأعلى إلى غرفة صغيرة، مبعثرة الأحشاء.
فارس مازال مستلقياً على سريره، يبدو عليه التوتر كثيراً، ووجهه شاحب جداً، وكأنه منهمك في التفكير، يتناول الأشياء التي بجانبه، ويرميها بنزق معترض على شيء ما.
والده يتساءل: ما الذي حصل له، منذ أكثر من أربع ساعات، وهو على هذه الحال؟!..
فجأه، ينهض فارس في وثبة خاطفة، كمن مسه تيار كهربائي، وراح يبحث هنا وهناك، بين أكوام ملابسه الملقاة على الأرضية، ثم توجه إلى خزانة الملابس، وشرع يرمي ما فيها من ملابس، بلا مبالاة، باءت محاولاته بالفشل؛ لم يجد مايبحث عنه، اتجه نحو أدراج طاولته، ولم يفلح أيضاً. توقف لوهلة، وهو يلهث، وضع يديه على رأسه، والتقط أنفاسه، ثم جال بنظره هنا وهناك؛ للأعلى وللأسفل، ربما ليتذكر أمراً، فهل يصدق ظنه؟!.
استقر نظره في الأعلى، مدّ يده لسطح الخزانة، تحسس شيئاً ما، ابتسم برضى، أخيراً وجد ضالته، نعم، هذا ما يبحث عنه دفتر صغير، أطبق عليه بكلتا يديه، أخذ يقبله كمشتاق، وضمه إلى صدره، وبسرعة البرق، جمع أشياءه؛ مفاتيحه، محفظة نقوده، وهاتفه الخلوي، تاركاً تلك الفوضى العارمة، وغادر المنزل.
ركب سيارته، تنفس الصعداء، استعد للانطلاق نحو غايته، نظر في المرآة الأمامية، ليتفقد هيئته، فهاله منظر وجهه العابس، وعينيه الجاحظتين، هندم قميصه بعناية، ورش رشة عطر، وأخذ يتنحنح بسعال خفيف، ليختبر نغمات صوته المرتجف. تناول هاتفه، وبأصابع مرتعشة، راح يتصل بأحدهم، بكل هدوء ورقة.
– مرحبا ياسمين، كيف أنت؟..
– لستُ بخير، لي مدة وأنا أنتظر منك خبراً!
إلام انتهى لقاؤك بأبي؟!
– لم يوافق؛ لم يعجبه حالي، وطردني بعد أن أطلق ضحكة ساخرة!..
لن أستسلم، سأصمد إلى أن يتحقق ما نصبو إليه.
لقد قررت الرحيل!..
– ماذا؟!.. هل ستتركني؟!..
لقد خاب ظني بك،
كيف ترحل بدوني؟!..
– ياسمين، حبيبتي، تريثي؛ لا تتسرعي في الحكم عليّ، سنسافر معاً، فتذاكر السفر جاهزة، الليلة موعد الرحلة
لنبدأ حياتنا معاً،
– فارس، أنا بانتظارك،
سنحقق حلمنا، لن نستسلم لقراراتهم!.
لما أرخى الليل أستاره، وتناثرت نجومه وسط السماء، فبدت كسجادة سوداء مرصعة بحبات الخرز والألماس، مما زادها بريقاً ولمعاناً، اقترب أحدهم، من منزل كبير، وبيده مصباح، انطلقت منه ومضات تخللت تلك الأشجار المحيطة بالمنزل، بمجرد أن لمحتها ياسمين، حتى خرجت متسللة، لا تلتفت وراءها، تحمل حقيبة صغيرة، وضعت فيها ما لم تتنازل عنه، ليستقبلها فارس، ويقلها بسيارته، ابتسمت ياسمين وهي تنظر له بطمأنينة، أمسك يدها، وهمس لها: هيا بنا لنعيش حياة جديدة، لا سلطة لأحد علينا فيها.
ولما وصلا للمطار، ودلفا لصالة المغادرين المزدحمة بالمسافرين وذويهم، تأثرت ياسمين بمشاهد الوداع، لم تحتمل حرارة الأشواق، وشعر فارس بوطأة الموقف عليها، فضمها لصدره، وقال: – من أجل رهافة مشاعرك أنا متعلق بك، وقلبي يحبك.
اصطف فارس في طابور لاستكمال إجراءات سفرهما، ولما حان دورهما، أخذ الموظف المسئول جوازيهما، وراح ينظر لفارس ولياسمين، ثم إلى الجوازين، فما كان من فارس إلا أن قال مستفسرا: ما بك سيدي؟ هل هناك خطب ما؟! نظر الموظف لزميله وتبادلا ابتسامة ساخرة، ثم اتصل بشرطة المطار طالبا منهم الحضور، وقال: – خذوا هذا الشاب وتلك الفتاة للتحقيق التهمة سرقة جواز والده وخطف فتاة قاصر ليس لديها تصريح بالسفر.
حاول فارس الاعتراض، ومقاومة المسئول ليتلقى صفعة قوية أسقطته أرضاً، على إثرها فقد وعيه، بعدها سمع صوتاً يناديه: فارس، بني استيقظ!.. فتح فارس عينيه فزعاً، ليجد نفسه على سريره محموماً، فالأنفلونزا أسلمته لنوبة هذيان منذ ثلاثة أيام.
وكل عام وأنتم بخير
وتقبل الله طاعتكم