ما أعرفه عنه أكثر مما يعرفه عن نفسه فإذا تحدث العقل يتكشَّفُ العالم أمامنا كالعرّاف الذي يُقلِّب أسراره الكونية في بلورةٍ فاتنة لكن الأفعال أصدق فإذا أبو تمام يقول : السيفُ أصدقُ أنباءً من الكُتبِ” سأقول : “الفعلُ أبلغُ تاريخاً من الرُّتبِ” فمابين سيف الدولة وعبد المنعم الراشد صلةٌ وثيقة في مدِّ نفوذ المحبة وجَزْرِ القصيدة التي لن يفقهها إلا الراسخون في الشعر .
مع ذلك وضعتُ عنواناً يختصر أكثر من رِقّةِ البوح و فخامة الحديث عن شخص كريم أعزه الله سبّاقاً للعطاء وللحس الرفيع وللطمأنينة !
استضافنا عبد المنعم الراشد بمزرعته التي تغفو بأطراف قرى الأحساء مع ثلة من الأدباء والمثقفين حضروا تلبية لدعوة نادي الأحساء الأدبي بمهرجان جواثى الذي كانَ عرساً ثقافياً ومنبراً للنهوض ومساحة خضراء للتأمل فما أروع أن تشعر بإنسانية النخيل التي تحنو سعفاتها في خِضمِّ دافيء وتهذي ظلالها بين يدي الشعراء الذين أتوا من بقاع المملكة ليشهدوا أوبريت المحبة .
استوقفني عبد المنعم الراشد الذي أكرمنا دون حضوره مع أنه روحه كانت معنا حيث ترك الأبواب مفتوحةً على مصراعيها وكأننا نفتش عن ذواتنا الحالمة في ردهات الأغصان لاشك أن سخاء النفس أضفت على موئله رونقاً خاصاً كما لو أنك في عزلة كونية تصافح بخيالاتك من تهوى وتستحضر من تشاء .
الأحساء مالم تقرأ في ملامحها ذكريات الطفولة فاستعد لشيخوختك المريبة … لقد رأيتُ هدوءها المترف و نقاء سريرة من مروا بنا ومن استقبلونا بشرفِ النوايا وبطهارة الينابيع التي تدفقتْ القلوب قبل أن نرتمس في عيونها النضّاحة وبلغتْ المتعة أوجها بإبداعات شعرائها الذين يخطفون قصب السبق في الجوائز الأدبية على مستوى الوطن العربي !
هكذا بدأت الحكاية في أروقة أدبي الأحساء وامتدت لدى عبد المنعم الراشد و أسرته الذين أجزلوا بابتسامتهم وتأهبوا بنفائس مايملكون من السجايا والخصال الريفية التي ورثوها كابراً عن كابر ولا عجب أن يتطبع بها عيال القصيدة قبل عيالهم ؛ فهم يستحقون المديح والثناء بل تنحني الجباه خجلاً من فيض بذلهم واحتوائهم و تقديرهم للمسؤولية الاجتماعية والشراكة مع الآخر أياً كان فرداً أم قطاعاً
تستحق الأحساء كثيراً من قليل ولذلك أبناء الراشد لم يقصروا بقليلهم وبكثيرهم عسى أن تتهافتْ باقي الأسر الثرية في أولمبياد التغيير والتنوير فالعطاء الحقيقي هو أن تبني مستقبلاً … أليس كذلك؟!
فمن يسمو بالمحبة ويقدح زناد الرغبة في العناق سيجد كل الأحضان حوله وفي الأحساء لا في غيرها لبسنا طوق الياسمين ولم ننشغل إلا بالدفء حيث كان الليل شرفتنا المطلة على خارطة ا لأرق حيثُ تسامرنا بضحكاتٍ عالية وبعدما انفضّتْ مجالسنا عقدنا على عاتق الليل هُدنةً كي نرحل بدمعةٍ صامتة ونزجُّ بأصدائنا في دوامةِ الذكريات فأن تتذكر موقفاً جميلا يعني أنك ستعود إليه كثيراً بخطواتك التي لا تنسى آثارها بل تعود مراراً إلى ذات الحدث و لهذا يقول أحمد شوقي : الذكرُ للإنسانِ عمرٌ ثاني” وأقول :الشوقُ للأشياءِ عمرٌ ثاني” هكذا ينتهي الكلام
والكلام بعد الكلام صعبٌ كما يُعبِّر عنه الفيلسوف ابن رشد