خلق الانسان وله طابعه الخاص الذي يميزه عن باقي مخلوقات الأرض . ومحاولة عزله عن طبيعته تلك ستولد حتما تيارا معاكسا يرتد سلبا على مساره الصحيح .فهو كائن يحمل فكرا يختلف بالطبع عن بقية الكائنات الأخرى وموازاته بهم لن يجلب لنا سوى طمس كينونته تماما وهذا لن يصب في الصالح العام البته – شئنا أم أبينا فإننا مصادر طاقية مشعة ولدينا من الانبعاثات ما تكفي لأن تدمر فضاء كونيا كاملا وليس علاجا ملائما عدم استغلال هذه القوى الكامنة وتحجيمها وكبتها بحجج أبعد ما تكون عن الواقعية ناهيك عن المنطقية والتشريعية وهذه الطاقة تنبثق منه في نشاطات متعددة لذلك كانت الاعمال والمهن متنفسا للتخلص من بعضها والانشطة والمواهب للتخلص مما تبقى منها .لذك نجد الانسان هو الأرضية الخصبة والمناسبة للإبداع والإبتكار والفن فقد احتاج الانسان ان يحرر تلك الطاقة بالقوة فولد لنا ذلك الشعراء والكتاب والمؤلفين والمخرجين والفنانين من رسامين وممثلين ومغنين وراقصين ورياضيين .
أتمنى هنا أن لا أجلد بقسوة أن اعتبرت التمثيل والغناء والرقص فنا فمجتمعنا مازال لايستمريء هذه الأفكار وويغص بها لدرجة أنه مستعد أن يضرم النار في كل من يتبناها حيا فهم معذورون ولهم بعض الحق في ذلك . لكن لايمنع أن يمنحوا الحق أيضا للبعض المتبقي والذي لايجد ذلك ملزما . كلنا يعلم جيدا مغبة الاجتهاد مقابل النصوص الدينية والمزارب التي قد يفضي بنا اليها لذلك لن اجعله محل نقاشي البتة فيكفي أنه لا وجود لنص صريح يقطع بذلك فكل التحريمات تأويلية واتباعا لأقوال شيوخ (حسبما أرى )
لا أخفيكم سرا أنني شخصيا مررت بهذا التضارب الفكري فيما يخص موضوع الغناء بالذات وعلى غراره امتنعت عن حضور المناسبات التي تحبذه بكامل قناعة ورضا – كنت متأكدة ان التحريم احترازي لصعوبة اثبات التحريم قطعيا حسب ابحاثي وبرغم ذلك استحسنت التمسك بأشد مظاهر الزهد حتى أبلغ مرحلة الكمال كما هو اعتقادي . كانت تجربة ناجحة لم تضايقني البتة ولكن ذلك لا يمنع ان أناقشها بعقلانية المحايد لإثبات شرعيتها أم العكس . لأنني لاأقف قبالة حكم شرعي فرعي فقط بل قبالة تدفق إنساني محسوس و مناطحته ما هو إلا هدر كوني ضخم له مساوئه على المدى البعيد لايعرف أبعاد ما قد نخسر جراءه فعلا .لنترك التمثيل جانبا الان فادخاله في مناهج التعليم صنع له في اعتقادي بعض الكرامة . أما الرقص فهو موضوع شائك ومخيف لن أغامر في خوض عقلانيته أو هزليته الان.
لنعرج على الغناء فهو ملك الساحة في الفترة الحالية وذلك لأن حركة السياحة والترفيه معتمدة عليه بالدرجة الأولى فهو تجارة رابحة من الجهة الاقتصادية وترفيه فعّال من الجهة الارشادية والتوجيهية يعيد التوازن الذهني الذي يتأرجح يمنة ويسرة بسبب ضغوطات الحياة الغير منتهية فهو مخزون انساني موجود وجودا حقيقيا شئنا أم أبينا يتدفق جبرا لا طواعية أحيانا . متخذا أسماء مختلفة (إنشاد /غناء/موشحات/أهازيج/شيلات/مواويل ….) لكن المغزى في النهاية واحد ترجيع الصوت واستخراجه بطريقة فنيه تجمع بين الصوت والكلمة والموسيقى .
هو أسلوب تعبيري يعد الأجمل والأذوق والأهم لتنفيس الأفكار الإنسانية سماوية (انشاد ) كانت أو أرضية .فرض وجوده حتى تغلغل في أقرب العلاقات الروحية للفرد ونعني بذلك الاوامر والتوجيهات الدينية التي يقوى نفوذها الى الضعف عن طريقه . وسمي إنشادا أو رثاء أومدحا لكن التكنيك الأصلي لجميعها واحد والفيصل الفارق في تحريمه تراوح متذبذبا مابين الموسيقى (وقد عُدت حقبة طويلة أساس التحريم وعلى غرارها تمظهرت لنا الكثير من مشاهد إتلاف الآلات الموسيقية المخجلة في جميع أنحاء المملكة ) وما بين التحريم بسبب المحتوى الذي كانت جبهات الصراع فيه تدور حول ان كان دينيا او غزليا او لهويا او طربيا او راقصا أو ما يحلو لكم وصفه فكلها بلا معنى .
مما يترك المرء يقف حائرا قبالة هذا التردد الغير واضح والغير مفهوم والزج بالدين في جميع تلك العلل مصيبة اخرى كنوع من الاستهانة بالخلفية الذهنية للافراد داخل النسيج السعودي المنصرم . مراهنين انه ليس هناك من سيشك لحظة في أنه ليس من مهمات النصوص الدينية تركك حائرا هكذا دون الفصل في قضية كهذه وأن تجلي لك المبهم وتقدم استنارتها في كل ما أعتم كل ذلك جعل السعودي السالف يصدق أن الغناء نوع من التعابير المجرمة والنجسة والإباحية المثيرة للغرائز حتى . وهو بعيدا كل البعد عن ذلك كما هو الواقع . فليس هناك أجمل من موسقة المشاعر الإنسانية الحقيقية بأرقى المفردات الشعرية المهذبة بصوت ملائكي صداح يخاطب الروح بالروح كما نسمع في الساحة فهو ليس سرا خافيا بل مشاعا وبإمكان الجميع شهادة ذلك .
فلا لوم إن أتهمنا بعد كل هذا اننا نحارب نتاجنا الطبيعي بضراوة شرسة دون أسباب مقنعة حتى وإن تعاملنا مع الروح الانسانية بهذا التشكك الزائد والهزلي الصريح إنما هي محاولة واضحة لإسقاط اهليتها واستحقاقها تولي أبسط أنواع المسؤولية مهما كانت غير مكلفة . ماتمت جناياته على الروح في بلدنا لم يكن سهلا ابدا نحمد الله ان الاغلبية تقبلت تلك الحرب الشعواء دون ان يبدر منها حراكا على المستوى الفكري على الاقل.
حقا انحني لهم احتراما شرط انهم تحملوا ذلك صبرا وإلا فإني من جهة أخرى حانقة عليهم لإستسلامهم الجريء هذا لمسار لم يكن صائبا منذ البداية . أنا هنا طبعا اقصد المستنيرين وما كان أكثرهم أولئك الذين آمنوا أن استنارتهم لم تكن عتمة يوما لم يكن الفكر السعودي قبل اربعين سنة فكرا مستهانا فقد كان متقدما بدرجة كبيرة يجعل من هم على شاكلتي يستصعبون تصديق انسحاب أربابه من الساحة الادبية والفكرية دون أدنى مقاومة مما اتاح سيطرة اتجاه فكري واحد نصب نفسه حارسا ووصيا وارتدى المصداقية حتى تقدس كل ما يحرم ويحلل . كل ذلك حاصر النتاج الفكري محاصرة خانقة حتى اختفى تماما وكل ذلك أسهم في ولادات السفاح الغير مرغوبة من الافكار المتطرفة السالفة والتي مازلنا نتجرع ويلاتها حتى اللحظة . مهمتنا الآن لابد أن تتضح ولابد أن نقوم المسار حتى تعود للساحة الادبية والفنية كرامتها ما أمكن .
8 pings
إنتقل إلى نموذج التعليقات ↓