
نظرت إليها باستغراب يجر وراءه تساؤلات عديدة وحيرة لاتعرف للحقيقة دربا أوللاستفسار منفذا ، شابة في العقدالثالث من عمرها كان صراخها مريرا وعويلها قاتلا يمزق القلوب ويصهر الروح ،بل يفجر المحاجر نيرانا محرقة تلهب الصدوربأسى الحزن ونحيب الافتجاع.
أرعبني صراخها الذي اكتنف المكان كانت تخمش وجهها بشدة وتلطم رأسها بالحائط إنها لاتعي ماذاتفعل حتى سقطت على الأرض مغشيا عليها هرولت إليها مسرعة بقدمين ثقيلتين ، أمسكت بيديها الباردتين رفعتها من على الأرض.
أحدقت النظر إليها من جديد لكن هذه المرة نظرة عطف ورحمة يسبقها أنهار من دموع حائرة وسط أجواء حزينة ولحظات موحشة وأحاسيس مفعمة بالأسى وكأن الزمن مخلوقا وقف يشاركنا همنا لحظة بلحظة.
تواردت إلى نفسي تكهنات عديدة ،هل هذه المرأة مجنونة فقدت عقلها أم عاقلة سوية طعنها القدر بخنجر الغدر المر فأفقدها عزيزا أبا حنونا أوأما رؤوما أو زوجا محبا أوفلذات أكبادرحلوا فغدت من العقل فاقدة حسرة عليهم .
أصطحبتها مع عددمن الممرضات إلى إحدى غرف المستشفى، التف حولها الأطباء باذلين كل مابوسعهم لإنقاذها لكن دون جدوى فقد دخلت في غيبوبة أخمدت ثورتها وأوقفت حراكها واستسلمت لنوم عميق بطئ الأنفاس.
خرجت من غرفتها حتى وكأن قلبي من الحزن غدا نزيلا عندها وروحي باتت تحوم حولها ترتشف من حسرتها وأشجانها،دونت رقم غرفتها في وريقة صغيرة كنت قد احتفظت بها داخل حقيبتي حتى أعاود زيارتها من جديد وحتى يتسنى لي الاطمئنان على صحتها.
خرجت من المستشفى لكن صورتها صراخها أنينها لم يبارح مخيلتي التي اعتراها الجمودوالخوف بعد احتضانها لهذه الأحداث المؤلمة ، مضت الأيام والأسابيع ولم أراها إذانشغلت عنهابالتزاماتي العديدة لكن السؤال عن تلك المرأة كان هاجسي الوحيد.
وأخذت كل يوم أتصل على المستشفى لأطمئن عليها فيأتي الرد صادما بأنها على وضعها السابق لم تتحسن ،حتى جاء اليوم الذي أخبروني فيه بأنهاقد تحسنت وبدأت تتماثل للشفاء ونقلت إلى غرفة أخرى لمواصلة العلاج ،أحسست بفرحة عارمة لم تجد لها طريقا إلى قلبي منذ زمن بعيد .
أرتديت ملابسي مسرعة وقلبي يسبقني قبل قدماي إلى هناك ،وما أن وصلت إلى المستشفى حتى طرقت عليها الباب وأنا لاهثة الأنفاس يحدوني الشوق إليها والفضول القاتل لمعرفة تفاصيل مأساتها .
دخلت الغرفة كان الصمت الرهيب يخيم على المكان وبوجه شاحب توشح بمرارة الحزن والألم وعينان غارقتان بدموع الحسرة والافتجاع استقبلتني ، أقتربت منهامسحت بيدي على رأسها المثقل بالهموم تنهدت من صدر ضيق وعقل ذاهل وقلب مكلوم ثم وجدت للكلام لها سبيلا وقبل أن أبادرها بالسؤال أخذت تسرد قصتها وتستعيد ماسيها.
إذ كانت أما لزهرتين جميلتين وكان البيت يتراقص فرحا وطربا بوجودهما ، يعج بالضحكات الجميلة والحركات الجريئة ولم يخلو يوما بل ساعة من براءة الأطفال. وكان والدهما يحبهما بل يعشقهما بجنون ويسابق الريح في تلبية مطالبهما، حتى أتى ذلك اليوم المشؤوم .
كانت عقارب الساعة تقف عند السابعة صباحا وكعادتهما استيقظتا من النوم وجلستا للإفطاربعد أن طبعا قبلة ساخنة على وجه والدهما الذي ضمهما بلهفة وكأنها قبلات الوداع وماأن انتهيا من الإفطار قامت الأم بوداع الفتاتين وداع يعقبه الرحيل ولا أحد غير الإله يعرف المصير.
أخذت نفسا عميقا وهي تستطرد كنت كعادتي في كل صباح أمارس أعمالي اليومية من تنظيف وغسيل وتجهيز طعام لكن هذه المرة أحسست بثقل رهيب يجثم على صدري وكأن غمامة سوداء بدأت تلوح في الأفق وبدأ قلبي يخفق بسرعة رهيبة .
وفجأة رن جرس الهاتف ازداد اضطرابي هرولت مسرعة لأرد عليه وبالفعل ما أحسه قلبي ترجمه القدروإذا برجل الإسعاف يخبرني بأن عائلتي قد تعرضت لحادث مروع وأن ابنتاي قد فارقتا الحياة لقد كان الموت لهما بالمرصاد لم يرحم طفولتهما ونظرة البراءة التي تشع من وجهيهما بل انتزعهما مني انتزاعا واغتالهما القدر بأنيابه المفترسة ثم أردفت قائلة :أما الأب فقد تم نقله إلى مستشفى قريب ولايعرف مصيره.
وبعد أشهر انقضت بطيئة ثقيلة الوقع على النفس وبينما هي غارقة في سيل من الذكريات الأليمة سمعت طرقات خفيفة على الباب اندفعت إليه لتفتحه وإذا بالمفاجأة تنتظرها في الخارج أنه زوجها الغائب .
لقد عاد لكنه عاد بقلب ذبيح وعينان كسيرتان وفؤاد يعتصره الألم احتضنها في صمت وهو يطلق الزفرات العميقة والتنهدات المغبونة وفي وسط هذا العناق الطويل ارتفع صوت بكاء طفلة جميلة ايذانا بميلاد جديد لفرح جديد يطرق باب الأسرة المفجوعة ويحيل سماءهم الملبدة بالغيوم نهارا ساطعا تشرق فيه الشمس بعد الأفول ..