قال الله تعالى :(وَٱلَّذِینَ ٱجۡتَنَبُوا۟ ٱلطَّـٰغُوتَ أَن یَعۡبُدُوهَا وَأَنَابُوۤا۟ إِلَى ٱللَّهِ لَهُمُ ٱلۡبُشۡرَىٰۚ فَبَشِّرۡ عِبَادِ * ٱلَّذِینَ یَسۡتَمِعُونَ ٱلۡقَوۡلَ فَیَتَّبِعُونَ أَحۡسَنَهُۥۤۚ أُو۟لَـٰۤئكَ ٱلَّذِینَ هَدَاهُمُ ٱللَّهُۖ وَأُو۟لَـٰۤئكَ هُمۡ أُو۟لُوا۟ ٱلۡأَلۡبَـٰب) [سورة الزمر 17 - 18] .
إن المتأمِّل في الآية يجد أنها تؤسس مقياساً موضوعياً عبر استيعاب كل الأقوال باتجاهاتها وتنوعها ثم اختيار الأحسن منها (بغض النظر عن القائل) واعتبرت ذلك منهجاً للوصول الى الحق فـ (الأحسن) الذي تعنيه الآية لا شك أنه هو الحق والهدى لأنها مدحت العباد الذين اجتنبوا الطاغوت (أهل الباطل) واختاروا نهج الهداية الربانية (أهل الحق) .
أولاً / هناك اتجاهان لأهل التفسير لمعنى (القول) في الآية :
١- أن المراد بالقول هو ما نزل على النبي (ص) من قرآن ، وما جاء به من السنة .
وقد أطلق القرآن على نفسه (القول) في آيات منها : 《 أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ ٱلْقَوْلَ [المؤمنون : 68] وقوله تعالى : 《 إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا هوَ بِٱلْهَزْلِ 》 [الطارق : 13ـ 14] أما الدليل على أن القرآن الأحسن المتبع هو قوله تعالى : 《 وَٱتَّبِعُـوۤاْ أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُـمْ 》[الزمر : 55] .
و(الأحسن) صيغة تفضيل للقرآن مقارنة بالكتب السماوية أو في القرآن نفسه بين آية وآية وقد تكون مفردة (أحسن) صفة ثابتة وليس (صيغة تفضيل بين شيئين وأكثر) بحيث يقارن بها بين حسن وحسن مثلما نجد توظيفها في قوله تعالى :《 فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحۡسَنُ ٱلۡخَـٰلِقِینَ 》[سورة المؤمنون 14] .
٢- القول هو مطلق المعنى العام لكل ما يسمع قال الشيخ المكارم الشيرازي وهو يتحدث عن المتبعين أنهم : " لا يستمعون لقول هذا وذاك ما لم يعرفوا خصائص وميزات المتكلم والذين ينتخبون أفضل الكلام من خلال قوّة العقل والإدراك إذ لا تعصب ولا لجاجة في أعمالهم ولا تحديد وجمود في فكرهم وتفكيرهم إنّهم يبحثون عن الحقيقة وهم متعطشون لها فأينما وجدوها استقبلوها بصدور رحبة (...) بل هم يختارون الأجود والأحسن من بين (الجيد) و (الأجود) و (الحسن) و (الأحسن) (...) لنيل الأفضل والأرفع وهذه هي علامات المسلم الحقيقي المؤمن الساعي وراء الحق " (الأمثل ج١٥ ص٣٧) .
وقال السيد محمد حسين فضل الله : " وقد أطلق الله القول فلم يحدد له وجهاً معيناً ليوحي بأن هؤلاء الناس لا يتعقدون من سماع أيّ قولٍ لأيّ قائل ما دامت المسألة لديهم أن يفكروا بما يسمعونه ... " . (من وحي القرآن) .
ثانياً / استعملت الآية (يستمعون) (فيتبعون أحسنه) بصيغة المضارع المستمر وزِيد تأكيد الفعل (سمع) ليكون (يستمع) لتأكيد صفة الاهتمام بالأقوال وتقليبها وتمحيصها عن رغبة في معرفة الحق لدى هؤلاء الفئة وأنهم على الدوام في حال طلب للعلم والاستزادة المعرفية لتصحيح الفكر والنهج نحو الهدى والحق .
والقرآن حينما يتناول (الاتباع) كقضية يضع لها شروطاً تتقوّم على أسس عقلية وشرعية وتتحرر من ربق الجهل والهوى والانتماء القبلي والسائد اجتماعيا من العادات والتقاليد فهذه الاتباعات كثيراً ما حذّر منها القرآن في آيات كثيرة لأنها متقومة بغير دليل علمي ولا ديني ولا عقل منطقي معتبر .
ثالثاً / قد يُطرح تساؤل في مدلول الآية : هل الآية بصدد تأسيس اتجاه في أن يتبع كل فرد ما يراه حسناً في نظره بحيث تكون الآية مشاعة لأصحاب التوجّهات لتأويلها نحو ما يسيرون عليه من منهج أو اتجاه فكري مختلف ؟ .
ولكي نفكك هذا التساؤل علينا أن نبين : أن الآية حينما دعت إلى اختيار الأحسن لم تطلق العنان للمتدبّر كي يتخذ لنفسه طريقا لتصحيح اتجاهاته التي اختارها بناء على ما يراه حسنا في نظره .
وعلينا بذلك أن نطرح أسئلة مهمة لتتضح لنا دلالة الآية : ما هو معيار الأحسن في الآية ؟ لماذا ذكرت الآية كلمة (القول) بالذات ؟ إلى ما يعود الضمير في مفردة (أحسنه) ؟ وهل كل ما يراه الإنسان لنفسه حسناً يكون بنظر العقلاء أو بنظر القرآن الأحسن ؟ وبمعنى آخر : هل معيار الأحسن الذي عنته الآية معيار ذاتي أم موضوعي ؟ .
ولكي نحدد نوع المعيار علينا أن نرى سياق الآية ونجمع إليها سياق آيات أخرى لنصل للمدلول القرآني العام لمفهوم (اتباع الأحسن) .
إنّ الآية كانت بصدد مدح الذين يتبعون أحسن القول بعد تمحيصه ومما يبعد المعيار الذاتي أن الضمير في كلمة (أحسنه) عائد إلى القول وليس إلى السامع (يستمعون القول فيتبعون أحسنه) فالآية لم تقل : (فيتبعون أحسن ما يرونه أو أحسنه إليهم) إنما جعلت المعيار للقول .
وبنظرة سريعة من المهم أن نعرض أنواع الاتباعات في القرآن لكي نتعرّف إلى السياق المائز في الاتباع الذي عنته الآية :
١- اتباع الشيطان .
٢- اتباع الآباء والتقاليد والعادات .
٣- اتباع الشهوات والأهواء والظنون
٤- اتباع أهل الباطل .
٥- الاتباع من غير علم .
٦- اتباع هدى الله عن طريق الأنبياء والكتب الإلهية .
٧- اتباع القرآن بالخصوص ككتاب جامع ومهيمن على الكتب التي سبقته .
ومن الواضح أن (الأحسن) من هذه الأنواع هو اتباع الأنبياء والأوصياء والكتب الإلهية (بخاصة القرآن) والعقل الذي يوصل لهدى ذلك الطريق .
رابعاً / من الإشارات المهمة في الآية أنها جعلت اختيار الأقوال سابقاً على العمل أي أن كل عمل لا بد أن يتقوّم بمعرفة سليمة فلا عمل من غير علم صحيح ولا علم تام من غير عمل .
فهذه الفئة المنيبة إلى ربها اجتنبت طريق الطاغوت لمعرفتها أن الطواغيت طريق ضلال وأخذت بطريق الحق بعد تمحيص الطرق والمناهج التي تقود إليه وبذلك استحقوا هداية الله وبشارته بأنهم من أولي الألباب .
وهذه الفئة هم نماذج أهل الحق ولم يلبّس عليهم في شيء لأنهم متيقظون بعقولهم واعون بنهجهم الأصيل بعد معرفة منافذ الأقوال والاتجاهات وخلفياتها الفكرية .