كان يشغلني سؤال مؤرق : كيف أعرف أني معاصر لزمني ؟ والمعاصرة التي أعنيها : ليست المزامنة العمرية التي تبدأ وتنتهي بتاريخ محدد ؛ إنما :
١- انتقاء أو ابتكار الجديد في النمط الثقافي أو المادة بما يتناسب والمتغيّرات التي تفرضها الحياة الاجتماعية والتراكم المعرفي للبشرية .
٢- الاستيعاب لمفرزات الزمن وتفهّم تعقيداته وكشف زيفه وخدعه والتحكّم بالشروط اللازمة لترك أثرٍ فيه .
بحيث أكون (ذاتاً أو جماعةً) في حالة تبادل وتحدٍ ، فأضيف - بحياتي فيه - إنتاجاً يكون بمثابة لبنة تضفي تطوراً لهذا العالم الذي يسير بالأجيال من محطةٍ إلى محطة .
هنالك بعض الدراسات تركّز في تناولها لمفهوم (المعاصرة) على الجانب السياسي والاقتصادي وأنه لكي نطلق على أيِّ أحدٍ منا أنه معاصر لا بد أن يكون حاذق الفهم والوعي بما تحمله السياسة والاقتصاد إقليمياً وعالمياً .. وهنالك دراسات تتعامل مع (المعاصرة) في مقابل القديم وتراث الماضي فتكون بذلك رديفاً لمفاهيم (الحداثة والتقدم و...) في جميع مجالات الحياة بما فيها السياسة والاقتصاد .
وسواء انطلقنا من محورية السياسة والاقتصاد في التحكّم والسيطرة على الإنسان والشعوب أو من المفهوم الواسع لجميع مجالات الحياة فسنصل في النهاية أن (المعاصرة) كنمط معرفي وثقافي متقوّم على أسس فكرية وتأتي أهمية معرفة هذه الأسس المعرفية لهذه البُنَى وخلفياتها لأنها الجوهر الذي يتحكّم بمصير الأجيال في كل حقبة زمانية .
وتبقى في النهاية السمات الظاهرية للمعاصرة تعكس خصائص الأسس المعرفية أي أنّ سمة (التسارع والاستهلاك) - كمثال - قد تعكس جانباً سلبياً أو يجابياً في الأسس المعرفية فقد يكون التسارع النمطي الاستهلاكي للتقنيات والمنتجات ناشئاً عن حالات التغيّر والتقدم العلمي النشط وهذا مؤشّر إيجابي .
وقد يكون سببه القصور المعرفي البشري أو الضياع عن الإمساك بالجوهر الإنساني وهذا مؤشر سلبي يدفع ضريبته الإنسان المستهلك الذي تكون حياته ضياعاً وخسراناً في النهاية لأنه ظل رهين التجارب والتصورات الموهومة .
لذلك من الأهمية أن تكون السمات العصرية ضمن طاولة النقاش والبحث للوصول لأعماقها الفكرية ولعل أهم سمة عصرية متجلّية أمامنا هي : اختلاط الثقافات ما بين مدٍ وجزرٍ من الانفتاح والتماهي والمقاومة والتقوقع فهي تشكّل أهم تحدي نعيشه حيث يمثل زمننا مختَبَراً يتمحّص عنه قوة المنتج الثقافي من ضعفه مع تسيّد المعيار المادي والنسبي .
أي أن هذا التحدي حتميٌ لا مفرّ منه مع طغيان أنماط محددة من المعايير التي تتحكّم بالعالم ولو كشفنا أكثر عن جوهر هذه السمة لرأينا بأن الإشكالية التي ينبغي تناولها ومدارستها هي : تصوّرنا عن تاريخنا ومصيرنا الحائر بين ماضيه وحاضره ومستقبله .
أي أن نقطة الخلاص تكمن في ذلكم التصور البدائي عن التاريخ وشروط النهوض والاعتبار من التجارب البشرية .
إنّ من يستهويه الماضي قلباً وقالباً ويظل مرهوناً له ومكبلاً لا يزحزحه الحاضر لأن يفكّر في واقعه ومستقبله كيف تريد منه أن يحمل مشعل المعاصرة ؟! .
ولا نريد بذلك تجريم الإنسان الذي ينظر لماضيه بقدر ما نجرّم طريقة التعامل السلبي التي مُنِيَ بها هذا الإنسان الذي يلبس ماضيه أكثر من زمنه الحاضر وكأنه يسير القهقرى بدلاً من رسم المستقبل .
ولو دققنا أكثر في الآيات القرآنية الداعية للنظر في التاريخ فنجد أنها اختارت بدقة مفردات ( السير العبر والعبور العواقب والتعاقب وسنن ...) ومقتضى دلالات هذه المفردات هو الحركة والمرور والأخذ بالعبر لا الإقامة أو القناعة بحدود تلك الفترات ووراثة عاداتها وتقاليدها .
إضافة إلى أن تلك الحقب كانت تعيش وفق منطق واقعها وحدود ظروفها الكائنة فلماذا نقهر حاضرنا لأن يقتفي تلك الحدود وكأنه قدر لا بد أن نرتهن إليه ؟!
ونستطيع القول بوضوح : إن من يعيش زمناً لا ينتمي لسماته فهو يعيش خارج السنن التاريخية وإن من ينظر لماضيه أكثر من نظرته لتعقيدات حاضره وآمال مستقبله فهو زائد عن الحياة .
وأننا كأمة حُرِمنا الحاضر والمستقبل لأن نسبة تحكّمنا بمصيرنا أقل بكثير من معادلة التحدي والتقدم البشري فمن الطبيعي أن نتماهى ثقافياً وحضارياً مع الأمم المتصدرة وأن مقاومتنا أو حتى انفتاحنا لا يردّ علينا بشيء أبداً لأننا فقدنا المفتاح الذي به ننتقل بأرادتنا ووعينا .
وبذلك ضاع منا ليس فقط الحاضر والمستقبل بل حتى الماضي .. لأننا ببساطة : جعلنا الماضي والحاضر والمستقبل يتجاوزنا وقنعنا بالوقوف .