إن في التجارب والخبرات المستنبطة من صفحات التاريخ كنزاً ثميناً يضيف لأعمارنا أضعاف ما لم تصله في حيّزها الزمني المحدود وقد ألمح لهذه الفكرة أكثر من فيلسوف ومؤرخ ، من ذلك ما قاله :
* دافيد هيوم (١٧١١م- ١٧٧٦م) :
" إذا تأملنا قصر حياة الإنسان ، ومعرفتنا المحدودة حتى بما يقع في زماننا - فلا شك في أننا نشعر بأننا كنا نبقى أطفالاً في إدراكنا - لو لم يقيّض لنا هذا الاختراع [يعني علم التاريخ] الذي يرجع بخبرتنا إلى جميع العصور الماضية ، وإلى أقدم الأمم الخالية ، إن الرجل المطّلع على التاريخ يمكن أن يُقال عنه من بعض الوجوه (إنه يعيش منذ بداية العالم) " (في المعرفة التاريخية/ أرنست كاسيرر ، ص٨) .
وهذه المنقولة - كما ترى - خَلُصَتْ في النهاية إلى سرّ النظر والتأمل للتاريخ ، وهو (معايشة بدايات العالم وملازمته كالقرين الذي لا يفصله زمان أو مكان) ، وهو تغذية لغريزة حب الاستطلاع والمعرفة والبحث المودعة في الإنسان .
ولكن لا تظن - أيها القارىء - بأن (دايفيد هيوم) كان له قصب السبق في اكتشاف هذا السر العظيم ؛ فقبله من سطّر وأفصح عن هذا السر فتعال معي لأضعك على شيءٍ من عبارات مسطّرةٍ ، لاثنين من المؤرخين :
1- (ابن الأثير /ت ٦٣٠هجري) صاحب كتاب (الكامل في التاريخ) قال عن فوائد تواريخ الأخبار :
" فأما فوائدها الدنيوية فمنها :
أن الإنسان لا يخفي أنه يحب البقاء ويؤثر أن يكون في زمرة الأحياء فيا ليت شعري أيُّ فرقٍ بين ما رآه أمس أو سمعه وبين ما قرأه في الكتب المتضمنة أخبار الماضين وحوادث المتقدمين ؟! فإذا طالعها فكأنه عاصرهم وإذا علمها فكأنه حاضرهم ... " . (الكامل لابن الأثير ج١ ص١١) .
حيث خلص (ابن الأثير) أيضاً في نهاية مقولته إلى ما قرره (دايفيد هيوم) بالنتيجة ذاتها : بأن مطالعة أخبار الماضين تعد معاصَرة لهم خارج الزمن ، والعلم بها يعد حضوراً ومعايشة لهم .
2 - (مسكويه/ ت ٤٢١هجري) صاحب كتاب (تجارب الأمم) قال وهو يصف أحداث التواريخ وتجاربها : " ورأيتُ هذا الضّربَ من الأحداث إذا عُرف له مثالٌ مما تقدَّم وتجربةٌ لمن سلف فاتُخذ إماماً يُقتدَى به حُذِّر مما ابتُليَ به قومٌ وتُمُسِّك بما سعد به قومٌ فإن أمور الدنيا متشابهة وأحوالها متناسبة وصار جميع ما يحفظه الإنسان من الضرب كأنه تجارب له وقد دُفِع إليها واحتنك بها وكأنه قد عاش ذلك الزمانَ كلَّه وباشر تلك الأحوال بنفسه واستقبل أموره استقبال الخبر وعرفها قبل وقوعها فجعلها نصب عينه وقبالة لحظِه فأعدّ لها أقرانها وقابلها بأشكالها ... " ( تجارب الأمم ج١ ص٥٩) .
ويتضح التقارب بين المقولتين السابقتين من خلال ما يشير (مسكويه) من :
١- تصيير ما يحفظه الإنسان من تاريخ ما مضى إلى تجربةٍ تضاف لتجربته الجديدة وكأنه عاش الزمانين (زمان ماضيه وزمان حاضره) .
٢- الفارق الذي ألمح إليه ما تبعثه المقاربة بين الزمانين من حصيلة وبصيرة وذلك واضح في عبارته : (وعرفها قبل وقوعها فجعلها نصب عينه وقبالة لحظِه فأعدّ لها أقرانها وقابلها بأشكالها ...) .
ولكن حينما نعود للوراء إلى كلمات الإمام علي (ع) سنقع على المنبع الأصيل لتكوين هذا السر العظيم وسنتلمّس الملامح الاولى للنتيجة التي وصل إليها (دايفيد هيوم) وَ(ابن الأثير) ومن قبلهما (مسكويه) فمما قال في وصيته لابنه الحسن (ع) :
《 ... إِنِّي وإِنْ لَمْ أَكُنْ عُمِّرْتُ عُمُرَ مَنْ كَانَ قَبْلِي - فَقَدْ نَظَرْتُ فِي أَعْمَالِهِمْ وفَكَّرْتُ فِي أَخْبَارِهِمْ - وسِرْتُ فِي آثَارِهِمْ حَتَّى عُدْتُ كَأَحَدِهِمْ - بَلْ كَأَنِّي بِمَا انْتَهَى إِلَيَّ مِنْ أُمُورِهِمْ - قَدْ عُمِّرْتُ مَعَ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ - فَعَرَفْتُ صَفْوَ ذَلِكَ مِنْ كَدَرِه ونَفْعَه مِنْ ضَرَرِه ، فَاسْتَخْلَصْتُ لَكَ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ نَخِيلَه ، وتَوَخَّيْتُ لَكَ جَمِيلَه وصَرَفْتُ عَنْكَ مَجْهُولَه ... 》.
فالإمام بكلامه البليغ هذا ، تجاوز :
١- (المعايشة والمزامنة) التي اكتفى بها (ابن الأثير) وَ (دايفيد هيوم) .
٢- التشابه بين الأخبار والأحداث في اكتساب الحصانة لأمثالها عند(مسكويه) .
وقد رسم بعداً أوسع أفقاً من مجرد التعرف والاندماج التعاطفي فالناظر والمفكّر للتاريخ عنده هو من يزيح حجاب الزمن ويتقمص منظورهم لكن بلا مسايرة تتصف بحدود رؤاهم ونهجهم .
فهو مسايِرٌ مباينٌ لا يصحح كل ما عملوه بل يسير بمصفاة تفرز المصفّى من الكدر والنافع من الضار وينخل الجميل من القبيح ويصرف المعلوم عن المجهول .
وهو لا يلبي رغبة الاستطلاع فقط بل يعزز النظر والتأمل بالتحليل والنقد كي تتراكم التجارب والخبرات لتصنع عمراً مخضرماً بين الماضي والحاضر غير مقيّد بزمن محدود ولا مكان معدود .
فالتاريخ عنده ميدان متاح لسياحة ذهنية متنوعة ومتجددة وفضاء مفتوح لأي زائر يود اقتناص الصيد الثمين والموفور في تضاعيف الأحداث .
ولعل المائز الفريد في تجربة الإمام علي هو (حس الرساليّة) في توريث خلاصة التجارب البشرية لابنه ليكمل الجيل الجديد سلسلة الفكر والنظر لتاريخ الأمم فتكون له - بالإضافة إلى امتلاك ضرورة الدرس والمطالعة للتواريخ - مراكمة خلاصة التجارب الواعية لآليات التفكير والنظر .
وفي نموذج آخر للإمام من وصيةٍ إلى أحد أصحابه : 《 ... وَسِرْ فِي دِيَارِهِمْ وَآثَارِهِمْ :
١- فَانْظُرْ فِيمَا فَعَلُوا .
٢- وَعَمَّا انْتَقَلُوا .
٣- وَأَيْنَ حَلوُّا وَنَزَلُوا .
٤- فَإنَّكَ تَجِدُهُمْ قَدِ انْتَقَلُوا عَنِ الأَحِبَّةِ ، وَحَلوُّا دِيَارَ الْغُرْبَةِ .
٥- وَكَأَنَّكَ عَنْ قَليلٍ قَدْ صِرْتَ كَأَحَدِهِمْ 》.
حيث يكمل الصورة في هذه العبارات ويفصّل الكيفية التي أجملها في وصيته السابقة من خلال الربط بين العمل والمصير الدنيوي والتي تحث الهمم وتوقظ الغافلين الذين أعمت الدنيا بصيرتهم عن حتمية المحدودية والتي لا ينفك الإنسان عنها في كل عصر .
ويبلغ بنفسه - في وصيةٍ أخرى - مبلغ المودّع الذي يكشف عن مكنون قيمته وموقعها فيمن عاصروه :《 أَنَا بِالْأَمْسِ صَاحِبُكُمْ ، وَأَنَا الْيَوْمَ عِبْرَةٌ لَكُمْ وَغَداً مُفَارِقُكُمْ ... غَداً تَرَوْنَ أَيَّامِي وَيُكْشَفُ لَكُمْ عَنْ سَرَائِرِي وَتَعْرِفُونَنِي بَعْدَ خُلُوِّ مَكَانِي وَقِيَامِ غَيْرِي مَقَامِي 》.
وحق أن تكون الصحبة عبرةً لما تحمل تجربته من سمات نموذجية حرية بالاحتذاء والاقتداء والإتساء كما أكد بأن قيمته التي لم تقدَّر من قبلهم ستعود حسرة عليهم حينما يكشف الفراغ الذي يتركه فراقه فيهم فعندئذٍ تتراءى أيامه بأسرارها وتضييعهم تلك الفرص الثمينة فلا ينفع الندم بعدها فبدل من تضييع الأعمار والسير المتنكب عن نهجه كان أولى لهم أن يتأملوا وصيته ليرعووا .
بهكذا نضخ الأعمار الناضجة لعمر الإنسان الذي يشكّل حلقة متواصلة من المسيرة الإنسانية الهادفة والعارفة والواعية لحركتها وخط سيرها التكاملي .