لقد اعتدنا أن نواجه تاريخنا بوجه واحد ولون واحد وأسلوب لا يتغيّر ولكن : هل تاريخنا سيعطينا كل ما نريده منه بهذه الأحادية المتكررة ؟ وأعني بذلك : حينما تعلّمنا أن نقرأ التاريخ ، علمونا إياه بطريقة (تعرّف على ماضيك المشرق) .. (خذ منهم أمثولات عظيمة) .. (تفكّر فيما قدموه من علم وحضارة) ... و ...
إن هذه الأساليب في التعامل مع التاريخ لا غبار فيها ولكن تكرر تعاطينا بهذه الطريقة ولّد لدينا نظرة مثالية لتاريخنا وكأن أسلافنا من سكان المدينة الفاضلة ! وبذلك افتقدنا العنصر الواقعي والبشري لأي حقبة تاريخية تمر بها الأمم .
ونحن بهذا التعامل أفقدنا عنصرين تاريخيين مهمين لا بد من تفعيلهما في كل مرة نلج من أبواب التاريخ الكبير وهما :
١- التاريخ الواقعي : سلسلة أحداث تعشعش في الواقع كما وقعت دون مبالغة أو تشويه .
٢- التاريخ الافتراضي : مجموعة تصورات ذهنية تعشش في العقول لدراسة ذلك الواقع بحلوه ومرّه .
وهذان التاريخان قد يتصالحان وقد يتصارعان :
١- فإذا تصالحا وقع العقل على حدود ما وقع وعرف ماذا يأخذ ؟ وماذا يترك ؟ وأنصف ذلكم الأسلاف وعرف الصواب والخطأ .
٢- وإذا تصارعا تقدم واحد على حساب الآخر :
فإذا تقدمت الأحداث والوقائع هيمنت على الواقع وشلّت حركة التفكير والإبداع .
وإذا تقدمت التصورات الذهنية :
١- فإما نقع على مفرزة موضوعية ، ونصيغ ما وقع تبعاً لما نريده أو ما لا نريده .
٢- وإما نحمل ما وقع فوق طاقته فنقع في افتراضات تجريدية تبعدنا عن واقعنا وعما وقع .
وكلا التاريخين لا يستغني أحدهما عن الآخر .
أي أننا نحتاج في كل مرة إلى مفرزة نقدية للاعتبار من التاريخ وليس بالضرورة أن نحمل كل ما فيه ونطبقه وكأننا مأسورون لتلك النقطة .
إن هذا المنهج هو ما دعا إليه القرآن ، بقوله تعالى : 《 قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ 》[سورة آل عمران 137] .
إذن هنالك :
١- سنن إلهية وأنظمة اجتماعية وحريّة أن يكشفها العقل البصير .
٢- ولا بد من تفعيل (السير الفكري والتأملي والتجريبي) للولوج لأعماق التجارب البشرية .
٣- النظر والتفكر في عواقب الأعمال والأعمار والنهايات والنتائج الطبيعية للأمم .
فبالسنن والسير والنظر للعواقب نكون أنصفنا تاريخنا ذي الوجهتين (الواقعي) و (الذهني) لنحسن كيف نعتبر ؟ ونزيد من تراكم التجارب والمحاولات نحو الرقي والتقدم الحضاري الذي يليق بأمتنا .
وعلى نفس النهج يسير إمام الحكمة والبلاغة الإمام علي (ع) بالمنوال القرآني حيث من وصيته لابنه الحسن بعد انصرافه من صفين :
(( ... أيْ بُنَيَّ ! إنِّي وَإنْ لَمْ أَكُنْ عُمِّرْتُ عُمُرَ مَنْ كَانَ قَبْلِي ، فَقَدْ نَظَرْتُ فِي أَعْمَالِهِمْ ، وَفَكَّرْتُ فِي أخْبَارِهِمْ ، وَسِرْتُ فِي آثَارِهِمْ ، حَتَّى عُدْتُ كَأَحَدِهِمْ ، بَلْ كَأَنِّي بِمَا انْتَهَى إلَيَّ مَنْ أُمُوِرِهِمْ ، قَدْ عُمِّرْتُ مَعَ أوَّلَهَمْ إلى آخِرِهِمْ ، فَعَرَفْتُ صَفْوَ ذَلِكَ مِنْ كَدَرِهِ ، وَنَفْعَهُ مَنْ ضَرَرِه )) .
حيث عبّر الإمام بوصيته عن عصارة تجارب الأمم :
١- بالنظر والتفكر والتأمل العميق في أعمالهم .
٢- والسير في آثارهم ونتائج تلك الأعمال والأعمار بحيث أتيح له أن يستجمع ويراكم تلك المحاولات والتجارب والخبرات كمن عايشهم وشاهدهم .
٣- بهدف التمييز لصفو الأمور من كدرها ومعرفة نفعها من ضررها وهذا غاية القراءة التاريخية .
فبهذا المنهاج القرآني والعلوي نستنطق التجارب التاريخية ونجعل التاريخ مفتاحاً للتقدم والرقي وليس فقط مفاخرة : بكنا وكانوا ...