في سيرة أهل البيت (عليهم السلام) لا نجد عناءً في توفّر عددٍ كبيرٍ ومتنوعٍ من استدلالات في مجال العقيدة .
وقد تميّز ذلكم التراث بقوة العمق وبساطة الطرح ودقة الغاية ووضوح الأسلوب ووصول المقصد بأقل الجهد والوقت .
كما اتسمت تلك المحاورات بطابع الشفافية مع مراعاة طبيعة الموضوع ومستوى المتحاورين والتركيز على مهمة إيصال الفكرة بغير مشاحنات نفسية أو تعقيد فكري متعصّب .
وسنقوم بعرض باقة مختارة من استدلالات موجزة لإثبات وجود الله قد خاضها الإمام الصادق (عليه السلام) مع تيارات إلحادية فاعلة في عصره .
١- سأل (أبو شاكر الديصاني : أحد أقطاب حركة الكفر والإلحاد) الإمام : ما الدليل على أنّ لك صانعاً ؟ فأجابه الإمام (ع) :《 وجدتُ نفسي لا تخلو من إحدى جهتين :
١- إما أن أكون صنعتها أنا ؟ .
٢- أو صنعها غيري ؟ .
فإن كنتُ صنعتها ؛ فلا أخلو من أحد معنيين :
١- إما أن أكون صنعتها وكانت موجودة فقد استغنيتُ بوجودها عن صنعتها .
٢- وإن كانت معدومة فإنك تعلم أنّ المعدوم لا يحدث شيئاً فقد ثبتَ (المعنى الثالث) أنّ لي صانعاً وهو (رب العالمين)》(التوحيد للصدوق) إن هذه الإجابة المصاغة وفق منهج حصر الاحتمالات في الفلسفة والمنطق لم تتسم بتعقيد أو إغلاق بل سلسل الإمام المطلوب منها ووصل للمراد من أول تقسيم برهاني .
٢- دخل أبو شاكر الديصاني على الإمام الصادق (ع) وكان إلى جانبه غلام بيده بيضة فقال الديصاني : دلّني على معبودي ؟ فأخذ الإمام البيضة من الغلام وقال للديصاني : 《 يا ديصاني ! هذا حصن مكنون له جلد غليظ وتحت الجلد الغليظ جلد رقيق وتحت الجلد الرقيق ذهبة مائعة وفضة ذائبة فلا الذهبة المائعة تختلط بالفضة الذائبة ولا الفضة الذائبة تختلط بالذهبة المائعة فهي على حالها لم يخرج منها خارج مصلح فيخبر عن صلاحها ولا دخل فيها داخل مفسد فيخبر عن فسادها لا يُدرَى للذكر خُلِقت أم للأنثى ؟ تنفلق عن مثل ألوان الطواويس أترى لها مدبراً ؟! 》 (أصول الكافي ٨٠/١) .
وهذه الإجابة طبّق الإمام برهانه على موجود حسي (البيضة) وما فيها من دقة في الصنع ليستثير التأمل العقلي للسائل أفهل هذا الانتظام والدقة المتناهية تمت صدفة أو من غير صانع مدبر ؟!
٣- سأل أحد الزنادقة الإمام الصادق (ع) : ما الدليل على صانع العالم ؟ فأجابه الإمام (ع) : 《 وجود الأفاعيل التي دلّت على أنّ صانعها صنعها ألا ترى أنك إذا نظرتَ إلى بناءٍ مشيّدٍ مبني علمتَ أنّ له بانياً وإن كنت لم ترَ الباني ولم تشاهده ؟! 》(الاحتجاج للطبرسي ٣٨١/٢) .
وقد أودع في هذا الاستدلال أمرين أساسين هما :
١- دلالة الفعل على الفاعل وهو من أبسط البراهين العلية التي فطر عليها العقل ثم تطبيق مثال حسي لهذا الاستدلال (البناء) ودلالته على وجود بانٍ شيّده وأقامه ؛ إذ يستحيل وجود شيء ممكن بلا مُوجِد .
٢- أن الاعتقاد بهذا البرهان لا يلازم أن لا بد من رؤية الصانع لهذا البناء فالعقل يصل لهذا الاستنتاج المنطقي جتى من غير أن يراه يصنع ذلك البناء أو يراه حسياً ليعتقد بذلك بل إن الأثر يكفي في دلالته على توفر صفات مثلما تدل المصنوعات على دقة صفات الله وحكمته وهو تلميح بأن الخلق يعتقدون في وجود الخالق وصانعيته حتى من غير أن يروه مكتفين برؤية دلائله وآثار صنعه .
٤- سأل أحد الزنادقة الإمام الصادق (ع) : ألا يجوز أن يكون صانع العالم أكثر من واحد ؟ فأجابه الإمام (ع) :《 لا يخلو قولك إنهما (اثنان) من أن يكونا : ١- قديمين قويين - ٢- أو يكونا ضعيفين - ٣- أو يكون أحدهما قوياً والآخر ضعيفاً .
١- فإن كانا قويين : فلمَ لا يدفع كلُ واحدٍ منهما صاحبه ، ويتفرد بالربوبية ؟ .
٢- وإن زعمتَ أن أحدهما قوي والآخر ضعيف ثبت أنه واحد كما نقول ، للهجز الظاهر في الثاني .
٣- وإن قلتَ أنهما اثنان لم يخلُ من ان يكونا : ١- متفقين من كل جهة - ٢- أو متفرقين من كل جهة فلما رأينا الخلق منتظماً والفلك جارياً واختلاف الليل والنهار والشمس والقمر دلّ ذلك على صحة الأمر والتدبير وائتلاف الأمر وأن المدبر واحد 》 (الاحتجاج للطبرسي ٣٨٢/٢) .
في هذا الاستدلال تسلسل منطقي يتنقل فيه الإمام بالسائل من افتراض محتمل إلى افتراض آخر صحيح حتى الوصول للوجه الصحيح الذي يقره كل عاقل من بين تلك الوجوه الضعيفة .
إنّ هذه النماذج وغيرها مما رُويَت ونسبَت للإمام الصادق (ع) ، نجد أنها :
١- تتماسى وأصول الحوار القرآني في الاستدلال بالعقائد الحقة .
فلو تأملنا قول الله تعالى في نفي تعدد الآلهات : (أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ * لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ۚ فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ * لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ * أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً ۖ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ ... )[سورة اﻷنبياء 21 - 24] وقوله تعالى : (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَٰهٍ ۚ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَٰهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۚ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ)[سورة المؤمنون 91] وقوله تعالى : (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ۚ بَلْ لَا يُوقِنُونَ)[سورة الطور 35 - 36]
وقوله تعالى في دلالة دقة الخلق على وجود الصانع :(أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَت ) سورة الغاشية 17 - 20] وقوله تعالى في دلالة الأثر على المؤثر : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)[سورة البقرة 164] .
وقوله تعالى : (وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ * وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)[سورة الجاثية 4 - 5] .
٢- كما تتماشى أيضاً مع أصول الأوليات الفلسفية والمنطقية (الاحتمالات والتقسيمات الحصرية) والعقلية الفطرية (الوجدان وإثارة التفكّر بالعلية والأثر) .
وبذلك يُقدّم الإمام نهجاً قرآنياً وعقلياً في مداولة الاستدلال العقائدي .