قال الروائي الكولومبي الراحل (غابرييل غارسيا ماركيز) في كتابه (عشت لأروي) الذي يروي فيه سيرته الذاتية : " الحياة ليست ما يعيشه أحدنا ؛ وإنما هي ما يتذكره ، وكيف يتذكره ليرويه ... " .
يستبطن (ماركيز) في عبارته هذه رؤية عميقة الغور حول جوهر الحياة ويريد أن يؤكد من ورائها بأن حياة كلِّ واحدٍ منا ليست ما يعايشه ويكابده فيها بل بما يتذكره منها وكيف يتذكره ليجعل ذلك مادة مجهزة للرواية الشفهية أو الكتابية .
هل علمت كيف تختزل حياتك فيما (تتذكره) ؟ وهل علمت بأن (كيفية) تذكرك لما عشته هو خلاصة عمرك وحياتك وفيه سر مفتاح شخصيتك ؟ فقد تستهلك عمرك وتسير غير ملتفت لغبار قدميه الراحلة لكن تبقى الذكريات هي طاقة الحياة التي تمدك بجوهر وجودنا .
والسؤال الذي لا بد أن ينطلق بإلحاحٍ :
هل نقوى أن نتحكم في ذكرياتنا ؟ وكيف نستدعي ما نريد ونهمل ما لا نريد ؟ وقبل ذلك هل نتحكم في طريقة عيشنا قبل أن يتحول العيش إلى ذكريات ؟ وهل يبقى الإنسان هكذا رهين ذكرياته مهما تقدم به العمر ؟ لماذا لا يتفرغ لكل لحظة ليعيشها كما عاش لحظاته الماضية ؟ لماذا لا يستغني - ولو قليلاً - عن الذكريات التي لم يزل يتشبث بها وتتشبث به؟
يا لهذا الإنسان ! وهو يتأرجح بين لحظات عمره وذكرياته التي تسرق منه وعيه ووجدانه وكيانه !! يا لهذا المرتهن ! إلى رؤى ضاعت منه وبقي منها ما يبهجه أو يحزنه فيها !! .
ورغم كل ذلك .. يظل الإنسان حبيس ذكرياته مهما عرّج بعمره ومعاشه وكفاحه إن الذكريات عالم ذو حدين إما أن تجعل صاحبها ينعم بحياته أو ينتفض منها ويكون تعيساً لكأنه يود الخلاص باسترجاع ذكرياته أو يود التملص من ذكرياته ! .
إنه الهروب فهو ما يدفعنا لأن نخلع رداء ذكرياتنا أو نستزيد من التلبس به لو كان واقعنا هو الشبح الذي يخيفنا ..
وتظل الحياة أرحب صدراً من صناديق الذكريات وأرحب من همومنا وجراحاتنا وعقباتنا وآلامنا ... الحياة لم توجد لكي نتألم إنما في الألم سر لا بد أن نصل إليه لمكتشف ما وراء الألم لنحظى بعد ذلك بعالم أوسع ورؤى أبعد .
الحياة لا ترينا عوالمها إلا حينما نصرّ على المواصلة أما إذا أوقفتنا العقبات فلن نرى تلك الجوانب التي تختبئ وتنتظر أن نشرق عليها بوعينا وتأملنا العميق الذي يفجّر المعاني والرؤى الكثيرة .
مشكلتنا باختصار مع : وعينا المحدود لذكرياتنا والذي تسرّب من نظرتنا للحياة إلى أن صففناها ذكريات لا تتمرد على نمطية نظرتنا تلك .
فلو كنا في سعة من نظرتنا لتحصلنا على ذكريات نستطيع بسهولة أن نتجرد فيها من عواطفنا لتكون الذكريات مثل تجارب نعتبر منها ومواقف نتزوّد منها لنتطور أكثر .
الذكريات ينبغي أن لا تكون فقط محطة تنفيس لمشاعرنا أو زاوية ننعزل فيها عن عالمنا بل لا بد أن تكون الذكريات (حياة أخرى في حياتنا) نسير من خلالها إلى أعماق فلسفة الحياة .