تتنازع الدين أطياف مختلفة فنجد فريقاً يبتعد عنه وفريقاً يقرب منه بشكل مغالٍ ومتشدد وتكمن المشكلة في تصوّر (المتديّن) عن غيره من الأطياف التي يراها نائية عن خطه ومبدئه حيث يصفها بأنها منحرفة بالفم الملآن ولكن لم نسمع بأنّ (التشدد في الدين) هو الآخر يُعد (انحرافاً) فالتشدد الزائد هو ميل بالدين من جهةٍ إلى الناحية الخطأ مثلما الابتعاد عنه أي أن الدين يأمرنا بالشدة في أخذه والتعاطي معه وليس التشدد في تطبيقه .
ومن ذلك قوله تعالى : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ... ) [سورة الفتح 29] والأشداء صفة مدح وهي لا تعني التشدد إنما المؤمنون شديدو البأس والقوة في مواجهة الكفار المعاندين والمحاربين لمبدأ الدين الإسلامي ولعل خطورة التشدد تزداد وقعاً أنه يُرفَع ( باسم الدين) من قبل المتدينين أنفسهم مما ينتج عن ذلك خلط بين مفهوم الدين والتدين .
وقد يستغل غير الديني أو البعيد عن الدين هذه الحالة ويكرّسها لدى المتدينين لينتفع من هذه الحالة في بعض الظروف كما حصل لدى فئة الخوارج وفئة الغلاة حيث تستغل السلطات هذه الحالات التدينية لمآرب سياسية ودينية واجتماعية .
ولكي نعيد رسم تصور دقيق بين (التشدد والشدة) في الدين يلزم مناقشة نقطتين :
١- الفرق بين الشدة والتشدد :
الشدة هو أخذ الشيء بقوة وضرورة التمسك والاعتصام به للثبات والترسيخ وتجذير المفاهيم والقيم وكل ذلك مطلوب ومحبب في الدين حيث كل طيف بشكل طبيعي يمسك منهجه بقوّة وشدة بعد حالة اليقين والقناعة والشدة هنا : بأن يعتبر الدين أهم أولوية في حياته حيث يمسك به ويذب عنه ويحافظ عليه ولا يقدّم أية تنازلات في سبيل ذلك .
ولكن مفهوم التشدد مختلف حيث يتم اختيار طريق آخر أو تضخيم جزئية من الدين وتعميمها أو تسطيح الدين ببعض السلوكيات القشرية وترك الجوهر الأساس والتنطع بها وربما أدى إلى ابتداع مظاهر تشوه الدين نفسه فهذا هو الفرق .
فالشدة أسلوب يضمن ثبات الإيمان واليقين به بينما التشدد يؤسس لإقصاء اللين واللطف والعقلانية والتكامل الشمولي بين أنحاء الدين ومستويات حياة الانسان .
وقد أسس الدين لأساليب اللين واللطافة وحث عليها كثيرا كقوله تعالى في حق النبي الأكرم : (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ ... ) [سورة آل عمران 159] وهذه الأساليب لا تناقض الشدة والقوة في الأخذ بمبدأ الدين .
فاللين والتسامح والمحبة والتودد لا تعني التنازل عن مبدأ الدين والتخاذل عنه إنما تنظر لجهة المخاطب لإحداث التأثير المناسب ولذلك نجد تنوعاً في أساليب الدعوة والأدلة الدينية في آيات القرآن ولولا هذه الأساليب لم يكتب للدين من استمرار ووصول ونماء جيلاً بعد جيل .
٢- أن مسار الدين والتدين يقع في منتصف الطريق بين التوغّل الخاطىء فيه وبين الميل عنه وإذا لم يتميز طريق المنتصف فسوف يخلط المتدين بين الشدة والتشدد من هنا تكمن أهمية أن يفحص كل متدين أساليبه كي لا تهيمن عليه بعض الأساليب التي تحيد بمفهوم الدين والتدين فالبيئة التي ينشأ فيها والظروف التي كوّنت طقوسه ونشاطه التديني لها أثر في تشكيل نمطه الديني والتديني .
فمثلما يطلق على المبتعد عن الدين بأنه منحرف ينبغي أن نعتبر المتشدد هو الآخر منحرف عن الفهم المصفّى للدين الخالص فلا التشدد يعتبر احترازاً واحتياطاً ولا الابتعاد يعتبر منجياً فالدين أسس للعقل والدليل والحوار والتسامح والمحبة .
فإذا كان المتدينون أشداء على غيرهم إذا اقتضت الظروف ذلك فليكونوا رحماء بينهم فالشدة أن يكونوا في تواصل وتوادّ وأخوة لا أن يكونوا متشددين منفّرين لمفهوم الدين والتدين .
ولأن أجيالنا السابقة كانوا شديدو التمسك بالدين فقد ورثنا ذلك التشبث منهم ليكون الدين أهم ميراث نحمله بكل أمامة ومسؤولية لأجيالنا اللاحقة وهو مبدأ لا محيد عنه .
ولكن هذه الشدة ليست بالضرورة تتحوّل إلى تشدد في التعاطي معه ومع الآخرين(المنتمين أو غير المنتمين له) كي لا يتحوّل جوهره على حساب إضافة قشريات لم يأمر بها الدين نفسه والقشريات عادة يخترعها كل جيل ليعبّر بها عن تمثله التديني في الحياة .
وقد يتحوّل إلى مدافع ومنافح عنها أكثر من الدين الجوهري نفسه أي أنّ المتدين ينشغل بمسبحته ويترك صلاته وينشغل بسجادته عن سجدته ولا يعني ذلك ترك الأساليب في سبيل تثبيت الغايات والمقاصد ولكن لنعرف حدود الوسائل وما يوصلنا للهدف والغاية .