كعادتي كل ليلة عُدتُ متأخراً ليلة الأمس، مجهداً جداً بسبب مساعدتي لوالدي في رفع الأوزار الثقيلة، ألقيت بجسدي المرهق فوق تختي البالي لاسترخي قليلاً، وبي من الإعياء ماشل حركتي وكأن جسدي سفينة محطمة الأشرعة تطفو فوق سطح البحر وشيئاً يجثم فوقها يريد سحبها لأعماق ذلك البحر.
غفت عيناي ونمت نوماً عميقاً، مع نداء والدتي المتكرر ومحاولاتها في إيقاظي، كي أتناول شيئاً من وجبة العشاء قبل النوم إلا أنني كنت بلا إدراك أو شعور، ولم أعي بنفسي إلا صباحاً، عندما أستيقظت متأخراً عن موعد حافلة المدرسة فتذكرت امتحان مادة الكيمياء، هرعت لأجهز حاجياتي حتى أنقطع نفسي، هممت بالخروج من المنزل، هجست صوت خافت كأنها وشوشة أبي ،أوقفني همسه وهو يحكي لوالدتي عن حاله بالأمس وكيف أننا بالرغم من التعب، المشقة والجهد، لم نكسب من المال ما يكفي قوت يومنا وسد حاجاتنا.
طأطأت رأسي خجلاً، جلست أبحث عن نعلي المهترئ والدموع تتساقط من عيناي وفي القلب غصة على حياتنا البائسة وحال أسرتي المادية الفقيرة، استحيت أن أراهم على هذا الحال، تعمدت الخروج خلسة و بصمت مخنوق، لبست قناع الإنسان الغير مبالٍ وتجلدت بالصبر حتى وقفت على باب المنزل، مسحت الدموع بطرف قميصي الممزق، وقلت في قرارة نفسي: الحمدلله على كل حال، يكفينا نعم الله الكثيرة التي لاتعد ولاتحصى وأننا بصحة وخير وعافية.
وقفت محتاراً، أفكر في الوسيلة التي سأذهب بها للمدرسة خصوصاً أنها تقع في المنطقة المجاورة، وأي الإتجاهات سأسلك؟! ، القرار لم يكن صعباً تحركت ماشياً فكل الأزقة تؤدي إلى مكان تجمع الحافلات وسط البلدة، سلكت الطريق المؤدي إلى منزل جارنا وصديقي كميل كالعادة، وتركت الحزن جانباً، فما هو إلا غيمة سوداء صغيرة تفترش القلب، وتتقن انهمار على صدري كالخناجر إذا سيطرت على تفكيري، فهدفي كان هو الوصول إلى المدرسة قبل انعقاد امتحان الكيمياء.
وصلت بجانب منزل رفيق الحياة كميل الذي يقف لينتظرني هناك بالعادة ونذهب سوياً، لقد سبقني وذهب بمفرده بسبب تأخري عليه، حاولت أن أسرع قليلاً فالحافلة لا تنتظر كثيراً ولكن سرعان ما انقطع جزء من نعلي، لم أبالي، لايهم مازال به قوة ليقطع مسافة أكبر وعند عودتي سأصلحه.
اقتربت من الوصول لمحطة الحافلات، لأن منزل عمي صالح بالقرب منها، رأيت عربته المعبئة بالخضار والحشائش بجانب محل الخرده، عندما رأيته تسربت في ذهني مباشرة ذكريات طفولتنا أنا وكميل، تذكرت كيف كنا نجمع علب الكولا والعصيرات الفارغة والقذرة ثم نخفيها عن أعين الجميع لنبيعها لاحقاً لمحل الخردة ونحصل على بعض المال لنشتري به مانشتهي فنتقاسمه في ما بيننا، كان يفعل كل ذلك من أجلي فقط بالرغم من حالة أسرته المادية الجيدة، كان يحافظ على رباط صداقتنا بأي ثمن.
صدمة قطعت شريط الذكريات وخيبة أصابتني عندما أخفقت في الإلتحاق بالحافلة، لقد وصلت والمكان خالٍ، كل الحافلات ذهبت ماذا سأفعل؟!، الامتحان، النعل، المسافة، آه لما كل هذا الشقاء، الضنك، الفقر، الحرمان، ما عساي أن أفعل؟! وقفت في حيرة من أمري.
الطقس كان حار جداً و انتابني الضمأ، جلست على الرصيف لآخذ قسطاً من الراحة فالمحلات هناك كانت كلها مغلقه، لم أرى سوى رجل يقف عند عربته بجانب المسجد يبيع فيها قوارير من الماء البارد، مصفوفة فوق قوالب الثلج المبشورة، ذهبت لأشتري منه، وأكمل سيري على الأقدام، يا الله تذكرت، ليس لدي نقود لأشتريه، تحسست جيوب البنطال وجدت ثقباً كبيراً، فلم أجد شيئاً، أذكر بالأمس كان لدي بعض الريالات، ما بال هذا البنطال لقد سقط من خصري وأصبح واسعاً، يا إلهي واصلت وكلي أمل بأن أصل قبل ساعة الامتحان.
الشارع طويل جداً وهجير الشمس بدأ يصهر التراب، بدأ يدخل بين أصابع قدمي لا أستطيع السير عليه بنغل مقطوع، اتجهت ناحية الرصيف لأسير فوقه لكنه يميل ويتجه شمالاً ووجهتي للأمام، لقد تعبت فجلست لأستريح قليلاً، أخفيت رأسي بكلتا يدي، الشمس لا تفرق بين الغني والفقير تتعمد بأن تصل إلى ملامحي، انظر إلى المارة هنا وهناك عل أحدهم يستعط حالتي، هناك رجل مسن بالجانب الآخر بيده عكازة كان ينتظر استعطاف العابرون، لا أظنه سيفلح الأمر معي، واصلت السير، شددت نعلي، رفعت بنطالي، غطيت وجهي بكتاب الكيمياء ومع ذلك فقدماي لا تساعداني على المضي قدماً، إرهاق شديد وألم يأتي ويذهب في قدماي مثل نبض القلب، فأقف واجثُ على ركبتاي، ثم أواصل سيري، وأرفع بنطالي من جديد، سيارة تلفحني من شدة سرعتها، أركض نحو الطريق الرملي، فحرارة الشمس والرمل أرحم من الموت.
مازالت أشعة الشمس تحاول أن تتعرف على كل جزء بجسدي، رأيت حافلة المدرسة قادمة وكأنها سراب، هرولت في اتجاهها، وهي تتقدم في اتجاهي وكأننا نلتقي بعد غربة طويلة، عندما التقينا فتح السائق لي الباب الحافلة فركبت، لم أرى الطلاب، رأيت أقداماً ترتدي أحذية فارهة الثمن، اتضح لي أنها حافلة النقل العام، تذكرت بأنني لا أملك النقود، عدت أدراجي للوراء معتذراً ومضت الحافلة في طريقها، نكست رأسي، جثوت على ركبتاي، ثم واصلت سيري، يسرح خيالي مرة أخرى، تعود بي الذاكرة للوراء، لا أرى مايفرح القلب، ليس هناك سوى حرمان، وحسرة، ارفع بنطالي وأواصل.
مشيت ويداي تلوح لكل السيارات المارة، كل السيارات تعرفني، وأنا إبن هذه البلدة الصغيرة، ولكن من يبالي، احتدام الحرارة يلفحني والعرق ينضح و يستغيث يريد الخروج من هذا الجسد الرطب، أكملت طريقي بلا شعور لم يكن عندي هدف سوى قطرة ماء، أصبحت أرى التراب وكأنه بحر يتبخر من أمامي، وكل شيء فوقه سراب، لم أعد أرى شيئاً واضحاً، مضيت من الوقت الكثير أترنح يميناً وشمالاً حتى بان هيكل المدرسة من أمامي وقفت ألتقط أنفاسي وأجمع ماتبقى في فمي من لعاب فقد جف حلقي وأمتلأ بالغبار طوال الطريق.
لم أستطع التقدم ولو خطوة واحدة إضافية، جلست مكاني والمدرسة تغيب عن ناظري، ليس بعقلي سوى بضع كلمات تدور مثل الرحى: الامتحان، النعل، البنطال، العطش، الفقر، الألم، كميل، والداي، كلمات تطير فوق رأسي كالعصافير حتى غبت عن الوعي وسقطت أرضاً.
بعد برهة من الوقت شعرت ببرودة تتخلل مسامات وجهي وكأنني استقريت في الجنة، أفقت وبجانبي ملك من السماء وقف ليظلل جسدي من رمضاء الشمس، أدركت بعد ثوانٍ قله أن الذي بجانبي كان حارس المدرسة يرش الماء على وجهي لم أفهم عن ماذا يتكلم فالكلمات غير واضحة وهي تخرج من شفتيه شيئاً فشيئاً تنجلي من حول وجهه الغبشة حتى استجمعت قواي وناولني كوباً من الماء وأيقنت أنني فقدت وعيي من شدة العطش وحرارة الشمس، كرر كلماته الأولى لي مجدداً وكان صوته واضحاً جداً، وكأنه طائر يصدح في أذناي، فقد كان يسألني عن سبب مجيئي للمدرسة في يوم الجمعة، حيث لا يوجد دروس في أيام العطلة الأسبوعية.