
في عالم محموم ومهووس بالسرعة, نجد أن شعار “الأسرع هو الأفضل” يحظى عند الكثيرين بقيمة عالية, وليس فقط في شؤون محددة, ولكن في شتى المجالات, وأيضا ضمن مراحل حياة الفرد.
فمنذ أن يبدأ الطفل في التعلم, ودخوله المدرسة حتى قضاء سنوات عديدة في الوظيفة, يتدرب ويمارس بشكل يومي السرعة من أجل الحصول على مكاسب علمية ومادية وترقيات عملية وتحقيق النجاح والوصول إلى أهداف محددة.
كل هذا من المرجح أن يحدث لأي واحد منا, لأننا نعيش في عالم وصل إلى ما هو عليه عبر تحولات صناعية وتقنية وقفزات اقتصادية وتغيرات فكرية, ينظر كل جيل إلى الوقت بشكل مختلف عن الجيل السابق.
كلنا يعرف قصة السباق بين الأرنب والسلحفاة, فالأرنب بالنسبة إلى السلحفاة سريع ويقفز, ولكن في السباق تنتصر السلحفاة البطيئة, وهذا يعني أن السرعة ليست دائما محببة أومرغوبة وإنما يمكن للأبطاء والتركيز على الهدف أن يكونا هما مقياس الجودة والنجاح. فهل أن السرعة دائما أفضل؟ أم أن الإبطاء يمكن أن يجلب نتائج أفضل؟ هل يجب علينا الاستعجال في كل الأمور من أكل وقيادة سيارة وعبادة ووظائف العمل؟ أم أننا يمكن أن نقوم بكل هذا في حركة أكثر بطئاَ؟.
في سنة 1982م صاغ طبيب أمريكي يدعى “لاري دوسي” مصطلح “مرض الوقت”, لوصف الاعتقاد الوسواسي أن “الوقت ينفذ, ولا يوجد ما يكفي منه, وأن عليك الإسراع بإستمرار للحاق به”.
وغالبنا ينتمي لعقيدة السرعة التي يقول بها هذا الطبيب. يسلط الكاتب الكندي كارل أونوريه – وهو صحفي يعيش في المملكة المتحدة – الضوء على حركة الإبطاء من خلال كتابه المعنون بـ “في مديح البطء, حراك عالمي يتحدى عبادة السرعة”.
حيث تناول في كتابه الذي نشرعام 2004 م حالة السرعة, وكيف تعاملت معها بعض الدول, والمنظمات الغير ربحية من خلال وضع برامج ودساتير, وتطبيقات على مناحي عدة من الحياة مثل الأكل, الدراسة, الطب, المواصلات, العمل وغيرها.
هذه البرامج كانت مزيج من جهود فردية ومجتمعية ومؤسسات أهلية وبعضها حكومية. سأسلط الضوء في هذا المقال على أهم أفكار الكتاب, ولكنه لا يغني عن قراءة الكتاب الغني بالتفاصيل المهمة والمقابلات والاحصائيات التي توثق حاجة العالم اليوم لحركة الابطاء.
يشيد الكاتب بحركة “الطعام البطيء” الذي ظهرت في ايطاليا عام 1986م عن طريق “كارلو بتريني” الكاتب المتخصص في الطهو, وذلك بعد أن بدأت مطاعم الوجبات السريعة بغزو شوارع المدن الإيطالية الكبرى.
إيطاليا كما غيره, بلد له عاداته وتقاليده في الأكل, فهو يتمتع بزراعة وافرة ومحاصيل متنوعة. لم يرتضِ رواد الطعام في ايطاليا بأن تتغير عادات أسلافهم, وتستبدل الأطباق التلقيدية المعدة بتمهل وبمهارة عالية بالأكلات المحضرة بسرعة تُلتهم في غضون دقائق لمواكبة سرعة الحياة.
رأى كارلو بتريني أن الحركة هي إنطلاقة جيدة لمعالجة الهوس بالسرعة في جميع مناحي الحياة, ونص بيان الجماعة على أن “صلابتنا في الدفاع عن المتع المادية الهادئة, هي السبيل الوحيد لمعارضة الحماقة العامة المتمثلة في حياة السرعة.
ينبغي أن نباشر دفاعنا بدءاً من طاولة الطعام, ومع حركة الطعام البطيء”. اجتذبت الحركة برسالتها أكثر من 78 ألف عضو في أكثر من خمسين بلداً, واتخذت من مدينة “برا” الايطالية مقراً لها, تُنظم فيها ورشات عمل, وزيارات مدرسية, وأسواق خيرية تختص بالمنتجين المحليين والعالميين. حتى أنها افتتحت جامعة لتعليم علوم الطهي والمأكل وخصائص الطعام.
لم تتعنِ الحركة بطهي الطعام بشكل بطيء فقط, وإنما بطريقة إنتاجه, حيث ساعدت المنتجين المحليين في أنحاء العالم على اتباع خطوات لمواجهة الانتاج السريع الذي فرضته الشركات الكبرى التي تتلاعب بالمحتوى الغذائي بشكل جائر وغير طبيعي.
أنقذت الحركة الكثير من الأطعمة البلدية المهددة بالإنقراض في إيطاليا وخارجها وساعدتها بالحصول على موطئ قدم في السوق العالمية.
يصف الكاتب المدينة بأنه مسرَع جسيمات عملاق, فكل ما في حياة المدينة من أصوات نشاز, وسيارات, وحشود, ونزعة استهلاكية, تدعو الناس إلى الاستعجال بدلاً من الاسترخاء, والتأمل والتواصل مع بعضهم البعض في هدوء. بالعودة إلى بلدة “برا” الإيطالية, فقد أصبحت بفضل حركة الطعام البطيء, وبمرسوم قانوني, مكاناً مثالياً للهروب من صخب الحياة, فيجلس أهلها في أيام العمل العادية طويلاً لتناول القهوة على طاولات الرصيف, يقضون الوقت في الأحاديث, ويراقبون العالم هاربين من جنون السرعة الذي يجتاح العالم المعاصر.
ظهرت بعد ذلك فكرة المدن البطيئة التي تراعي عذوبة الحياة من ضبط أوقات فتح المحلات, وتخفيف الضوضاء, وكمية الاضاءة في الشوراع, وتقييد سرعة السيارات إلى أقل حد, وزيادة مناطق المشاة, واضافة المسطحات المائية والخضراء. ستكون فكرة المدن البطيئة جذابة لمن يقطن في مدن فوضوية لاهثة مثل لندن ونيويورك وطوكيو.
ولا يعني السكن في مدينة بطيئة أن الناس فيها كسالى, أو لا يرغبون في العمل, بل انهم ينتهجون أساليب في مختلف مناحي الحياة ليضبطوا سرعة إيقاعهم, بحيث يكونوا هم المتحكمين في الوقت, لا أن الوقت دائماً يحكمهم, ويستهلك أبدانهم, ورغباتهم في الاستمتاع بلحظات الحياة.
تقول نائبة بلدية “برا”, برونا سيبيلي: “ليس من السهل أن نسبح ضد التيار, لكننا نعتقد أن أفضل طريقة لإدارة المدينة هي إعتماد فلسفة البطء”.
في سنة 2003م أطلقت تسمية “مدينة بطيئة” رسمياً على ثمان وعشرين بلدة إيطالية, وتدفقت الطلبات لهذا النهج في عدة مدن أوروبية ومناطق بعيدة مثل النرويج واستراليا واليابان.
تعتبر السيارة الخصم الأول للمدن البطيئة, فالسيارات الحديثة صُممت لكي تسرع, وهذا ما نشاهده عند عرض الإعلانات التجارية لها, وكيف أنها تتسارع لتصل لـ 100 كلم/الساعة في بضع ثوانٍ, وغيرها من القدرات المحفزة للسرعة. أصبحت الضغوط الرامية إلى إبطاء حركة المرور أقوى اليوم من أي وقت مضى.
فقد زرعت الحكومات مطبات السرعة في كل مكان, وضيقت الشوارع, وملأت الطرقات بكاميرات الرادار, وخفضت الحدود القصوى للسرعة, وفرضت العقوبات على المخالفين. في إحدى المقاطعات الإنجليزية, بدأت الشرطة المحلية في تقديم خياراً لأي شخص يٌقبض عليه متجاوزاً الحد حتى 5 ميل/الساعة, فإما أن يحضر المُخالف دورة إرشادية ليوم واحد, أو أن يدفع غرامة مع تسجيل نقاط سوداء على رخصة القيادة.
إحدى التجارب الذي ذكرها الكاتب, هي وضع مجموعة من المخالفين في أحد فصول مدرسة ابتدائية قد تدرب الطلاب فيه على تقريع المخالفين, فتسأل إحداهم: “ماذا لو اصطدمت وقتلتني وأنت تسرع؟”, ويسأل أخر بشكل مشابه فيه لوم وتقريع, فيظهرعلى بعض المخالفين التأثر الشديد لدرجة بكاء بعضهم. المشكلة في معظم تدابير مكافحة تجاوز السرعات من رادارات ومخالفات هي أنها تعتمد مبدأ القسر والإكراه, فنحن لا نبطئ من أجل الإبطاء ولكننا مضطرون. فالطريقة الوحيد لكسب الحرب على السرعة هي أن نعالج ما هو أعمق, أن نعيد صياغة علاقتنا بأكملها مع السرعة نفسها. نحن بحاجة إلى الرغبة في القيادة ببطء ليس من أجل القوانين, بل من أجل ثمرة البطء نفسه والراحة التي تجتاح أنفسنا.
وإذا كان رتم الطعام وقيادة السيارة يتسم بالسرعة, فما هي سرعة أذهاننا وتفكيرنا بالنسبة إلى سرعة خارج ذواتنا؟! عندما نخوض الحرب على السرعة, تكون خطوط القتال الأمامية داخل رؤوسنا. أي مالم يتم ضبط سرعة الذهن, ونمط التفكير في داخلنا, فإننا سنكون عرضة لمحفزات السرعة في الخارج, فعلينا أن نتعمق أكثر, ونغير الطريقة التي نفكر بها. بمقدور الدماغ أن يضنع الكثير إذا كان في حالة نشاط قصوى, لكنه سيفعل أكثر من ذلك بكثير إذا ما اتيحت له فرصة الإبطاء من وقت إلى آخر. يمكن لتخفيض نشاط الذهن أن يحقق صحة أفضل, وأن يمنح هدوءاً داخلياً, وتركيزاً معززاً, وتفكيراً أكثر إبداعاً, وقرارات مصيرية صحيحة, ويمكن أن يجلب لنا ما يسميه ميلان كونديرا “حكمة الإبطاء”. غالباً ما تكون حالة الإستراخاء والتأمل مقدمة تستهل التفكير البطيء, حيث أظهرت الأبحاث أن التفكير الخلاّق يزداد عندما يكون المرء هادئاً, ومتأنياً وغير مُجهد. كما أظهرت أن ضغط الوقت ومراقبته يؤدي إلى رؤية نفقية. يمكن ممارسة التأمل ودمج تمارين التنفس معه, وذلك بأخذ استراحات قصيرة أثناء العمل تمتد لعشر دقائق في كل مرة, فهي مفيدة لإعادة السكينة إلى الذهن, وزيادة الوعي, ولتجنب الغرق في أجواء العمل. تعد اليوغا أفضل الأساليب المتبعة عالمياً لممارسة الاسترخاء والتأمل, وليس ذلك فحسب فهي تضيف – حسب ممارسوها – مرونة للجسم, وقوة تركيز عالية, وتعزز من الصبر, وتخفف من الشعور بنفاذ الوقت, وتنقل الهدوء والبطء إلى فعاليات الحياة الأخرى مثل العمل والأكل والمشي والقراءة. وهناك ممارسة أو رياضة تشبه اليوغا تسمى “التشي كونج”, وهي عبارة تمارين بطيئة تعزز الصحة من خلال توزيع الطاقة على الجسم فهي تدمج بين اليوغا والتأمل والحركة.
تمتد حالة الإبطاء حتى في التمارين الرياضية والصالات المخصصة لرياضة كمال الأجسام التي تمتلئ بأجهزة ومعدات ثقيلة, ويملؤها الأصوات الصاخبة, والرغبة في الحركة بسرعة وبقوة عنيفة. تنتشر في دول عديدة فكرة الـ “سوبر سلو” وهي تمارين رفع أثقال, ولكن تُمارس بطريقة بطيئة وبأوزان قليلة, حيث يمكن أن يستغرق التكرار الواحد لـ 5 ثوانٍ بدلاً من 20 ثانية المتعارف عليها بأوزان عالية. يدعي الكاتب من خلال بحثه, ومقابلات أجراها وتجربته للسوبر سلو, أن هذه التمارين قد تعطي مفعولاً إيجابيا مماثلاً وربما أفضل من تمارين الأيروبيك, أو من جداول التمارين المتعارف عليها في الصالات الرياضية. لا تحتاج تمارين السوبر سلو إلى الوقت الطويل في اليوم الواحد, فهي مكثفة بحيث لا تستمر أكثر من عشرين دقيقة, ولا إلى الذهاب المتكرر إلى الصالة الرياضية, فيكتفي الممارس المبتدئ للراحة من ثلاثة إلى خمسة أيام بين الجلسات.
هل صادفت يوماً وأثناء زيارتك للطبيب أنه يطرح عليك الكثير من الأسئلة؟ ولا يتسنى لك الوقت لشرح حالتك؟ فالطبيب غالباً ما يستغرق وقتاً أطول في إدخال المعلومات إلى الحاسب, وصنع فاتورة العلاج, ووضع قائمة الأدوية الطويلة,وطلب أشعة وتحاليل من الوقت الذي يستمع فيه إلى حالة المريض. والنتيجة بعد الانتظار الطويل في دهاليز المستشفى, قد يتسبب في سرعة التشخيص والعلاج, ونتائج ليست مرضية بالنسبة للمريض, مع المعاناة الطويلة للأعراض الجانبية للكثير من العقاقير والأدوية. يعرف الكثير منا هذا الشعور, فالأطباء في جميع مستشفيات العالم يتعرضون لضغوط كي يتعاملوا مع المرضى وبسرعة. فبدلاً من أخذ الوقت الكافي للإستماع إلى المرضى, وإستقصاء جميع جوانب صحتهم, وحالتهم الذهنية ونمط حياتهم ومسببات الألم, يميل الطبيب الكلاسيكي إلى التركيز على أعراض المرض, وإهمال الأسباب الرئيسية, أو العودة إلى جذور المشكلة واجتثاثها من أصلها. لهذا يلجأ بعض الناس إلى العلاج التكميلي والبديل مثل العلاج بالوخز بالإبر, أو الأعشاب, أو التدليك الذي يدعي أنصاره بأنه يساعد في العلاج عندما يفشل الطب الغربي. تقول عالمة النفس الاستشارية إنغريد كولنز: “عندما نمنح المرضى الوقت والإهتمام, فإننا نمكّنهم من الاسترخاء, وهو بداية الشفاء”. وهذا يؤكد على وجود صلة بين العقل والجسم, فحين نقبل أن المريض شخص يعيش حالات ومشاعر وقصصاً يود أن يرويها, يصبح من غير المقبول الاستناد إلى بيان الأعراض لتحديد الوصفة الطبية. لكن السرعة في الطب, وكما هو الحال في الكثير من مناحي الحياة الأخرى, مطلوبة في بعض الأحيان فمثلاً في الحالة الطارئة أو أثناء العمليات الجراحية, تكون السرعة عاملاً حاسماً حيث يجب أن يقرر الطبيب على الفور الإجراء الصحيح لتلك الحالة.
يرى المفكر الفرنسي بول لافارج (1842 – 1911م) في كتابه “الحق في الكسل”, أن العمل إلى حد الجنون في تقديسه، سيكون في حقيقة الأمر مجرد غطاء إيديولوجي, يهدف إلى استخدام وبرمجة إيديولوجية للطبقة العاملة للرفع من مردودية العمل, والإنتاج إلى الحد الأقصى لصالح الطبقة المسيطرة. وكل هذا مقابل إنهاك قوى الطبقة العاملة الحيوية, وحرمانها من كل متع الحياة وأفراحها دون شفقة ولا رحمة، بنظرة ربحية صرفة، تهدف إلى أن تجعل من العامل مجرد آلة منتجة تجرده من إنسانيته لمراكمة الخيرات والمنافع, لتستمتع بها الطبقة الرأسمالية وحدها دون غيرها. ومنذ أكثر من قرن تبنى بعض الساسة الأراء التي تقول بأن الطفرة التكنولوجية ستوفر الوقت على العاملين, بحيث لا يضطرون للعمل لساعات طويلة في الأسبوع, بيد أن هذه النبوءات أصبحت مجرد سذاجة حمقاء. فحتى في القرن الواحد والعشرين, لايزال العاملون لأكثر من 45 ساعة في الأسبوع يأملون في أن يجدوا الوقت الكافي للسفر, والاستجمام, وقضاء الوقت مع العائلة, وممارسة الهوايات والأنشطة الاجتماعية والثقافية والتطوعية. أحد الأسباب الرئيسية للعمل بكد هو المال, فالكل يحتاج إلى كسب لقمة العيش, لكن نهمنا الدائم للسلع الاستهلاكية جعلنا نسبتدل المكاسب التي على شكل وقت إلى زيادة في الدخل. وُجدت دراسة في اليابان تفضي بأن الرجال الذين يعملون ستين ساعة في الأسبوع, يتضاعف لديهم الخطر الإصابة بنوبة قلبية بالمقارنة بمن يعملون أربعين ساعة أو أقل. وفي استطلاع أقر أكثر من 15% من الكنديين أن ضغوط العمل قادتهم إلى حافة الانتحار. تظهر الاستطلاعات, وخاصة في اقتصادات الساعات الطويلة, توقاً لقضاء وقت أقل في العمل, لأن معاناة الإرهاق والإنفصال عن الواقع, وعن الاسرة والمجتمع, وإهمال الصحة مؤذٍ في نهاية المطاف. عندما يلتهم العمل ساعات عديدة من حياتنا, يتقلص الوقت المتبقي لكل شئ آخر, وتصبح الانتاجية أقل في كل شئ حتى في العمل نفسه. يقول “كيبو أويوا” في كتابه “البطء جميل”: “أن الأهالي في اليابان يصرخون سنوات في أطفالهم لكي يسرعوا في حركتهم, ويكدّوا في عملهم, ويبذلوا المزيد من الجهد في حياتهم. لكن الناس الآن صاروا يقولون كفى! فقد أدرك الجيل الجديد أننا غير مطالبين بالعمل ساعات طويلة جداً, وأن من غير المعيب أن نكون بطيئين”. ويبدو أن الجدال سيطول في مسألة تقليل ساعات العمل, من وضع تشريعات وإلزامات على القطاع الخاص, ومراعاة للأرقام والسياسات الاقتصادية والإنتاجية للدول, ولكن المتفق عليه هو أن تقليل ساعات العمل, والبحث عن حلول لزيادة انتاجية ساعة العمل, هي حاجة ملحة يتوق لها الانسان بما هو انسان وليس بما هو آلة.
لا يولد الأطفال هاجسين بالسرعة والإنتاجية, بل نحن من يجعلهم هكذا. فالمنافسة تحفز العديد من أولياء الأمور إلى دفع أطفالهم إلى الإسراع, والإعلانات التجارية تشجعهم على أن يصبحوا مستهلكين مبكراً. باتت المدرسة في هذا العالم القاسي ساحة معركة, المهم الوحيد فيها هو تحقيق المرتبة الأولى في الصف, حيث يجب على الطالب تقبل محتوى المناهج المضغوطة, وأداء وظائف وواجبات تعليمية في المنزل لساعات, والتكيف مع آليات صارمة في الوقت والانتظام, وتوزيع غير متزن لأيام الاجازات والعطل. يدفع الأطفال ثمناً متزايداً لإنتهاج السرعة في الحياة, منتقلين من نشاط لا منهجي إلى آخر, فلا يتبقَ لهم وقت للإسترخاء واللعب, أو لإطلاق مخيلتهم, ولا يبتقَ لهم أيضا أي وقت للتمهّل. تشير مجموعة متزايدة من الأدلة إلى أن الأطفال يتعلمون بشكل أفضل, ويطورون شخصيات أكثر غنى وتنوعاً عندما يتعلمون بطريقة أكثر استرخاء, وأقل صرامة, وأقل تعجلاً. يشهد العالم الصناعي في كافة أرجاءه عداءً متزايداً لأتّباع نهج التعجل مع الطفولة, والعديد من أفكار الإبطاء تحرز نجاحات مشهودة, حيث يرتفع في كل عام الكتب والدراسات الجديدة التي يعبر فيها علماء النفس والمربون عن وقوفهم لأسباب علمية عن مخاطر زيادة الضغط على الشباب, ونهج السرعة في تربية الأطفال. نشر أستاذ التربية في جامعة كولورادو في دنفر “موريس هولت” بياناً يدعو فيه إلى حركة عالمية من أجل “التعليم المدرسي البطيء”. يرى هولت أن الغذاء الذهني الذي يقدمه حشو المعلومات في الأطفال بأسرع وقت ممكن, أشبه بالغذاء البدني الذي تقدمه شطيرة بيغ ماك, فمن الأفضل الدراسة بوتيرة هادئة, ومنح الوقت اللازم لاستكشاف الموضوعات بعمق, وبناء الروابط, وتعلم التفكير بدلاً من كيفية اجتياز الامتحانات. فالتعلم البطيء يوسع الآفاق وينشط الذهن ويمنح الأطفال حرية أن يقعوا في حب التعلم. بدأت الدول التي تتبنى نهج البطء في التعليم بحصد الثمار, ففي فنلندا يدخل الأطفال التعليم قبل المدرسي في سن السادسة, والتعليم الرسمي في السابعة. جوهر الاختلاف بين التعليم في الولايات المتحدة وفنلندا هو أن التعليم في الولايات المتحدة مُؤسس على الإيمان بالمنافسة، ولكن في فنلندا التعليم مبنى على التعاون والتشارك مما يتيح فرصة للنمو السليم, ووفقاً لهذه المعطيات – فإن الامتحانات لا تبدأ إلا بعد سن المراهقة. باتت فنلندا تتصدر باستمرار التصنيف العالمي المرموق للأداء التعليمي والمعرفي في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية, ما جعل المندوبين من مختلف أنحاء العالم الصناعي يتجهون إلى دراسة وتطبيق “النموذج الفنلندي”.
يقدم الكاتب بعض الحلول لاستعادة الايقاع الطبيعي داخل الانسان الذي يختل ولفترات طويلة كونه يعيش في محيط وبيئة متسارعة. فمثلا الحياكة, بالنسبة للنساء, تعتبر من أكثر الأنشطة التي لاقت رواجاً في العالم الصناعي, وأقبلن عليها كوسيلة مضادة للإجهاد والإسراع اللذان يطبعان الحياة العصرية. كما أن البستنة والعناية بالحدائق تعد في جميع الثقافات ملاذاً للنفس, ومكاناً للراحة والتأمل. فالبستنة تعيد اتصالنا بالطبيعة, وبالفصول والمواسم, وتعرفنا أكثر عن عالم النباتات, وعمليات الزراعة, والتدرب على الصبر, والتمهل والتخطيط, وتطوير التجارب للحصول على نتائج أفضل. من الأنشطة اليومية التي نقضيها والتي تعد عدواً للبطء هي قضاء وقت طويل لمشاهدة التلفزيون, أو تصفح وسائل التواصل في الهاتف بلا هدف أو فائدة, حيث يتدفق كم فوضوي وهائل من المعلومات والدعايات والاعلانات التجارية. ولو أمضى الانسان أغلب الوقت الذي يتوفر له في ممارسات بطيئة, لرأي النتائج الإيجابية على كثير من نواحي حياته النفسية والجسدية والاجتماعية. تعد القراءة والاستسلام لنصوص مكتوبة, والتحاور مع عقول الكتّاب, والسفر معهم في رحلات معرفية هو تحدّ لعبادة السرعة. فالقراءة وخاصة البطيئة والتأملية, وتدوين الملاحظات والملخصات, تعطي القارئ الفرصة لضبط إيقاع الحياة. كما أن ممارسة الفنون بأغلب أنواعها مثل الطهي والرسم والنحت يمكن أن يحقق السكون في خضم الفوضى, ويستقطب الاهتمام بعد رواج حالة التشتت.
اليوم مع وجود التطور التكنولوجي الهائل من توفر برمجيات تختصر الكثير من الفعاليات, وغزو الذكاء الاصطناعي والروبوتات لحياتنا, نتسائل هل بتنا بحاجة أكبر لحركة الإبطاء أم أننا سنستلم للإيقاع المتسارع الذي ما زلنا ندفع له ثمناً باهظاً, بحيث أصبحنا فقراء وقت, وأهملنا أصدقاءنا وعائلاتنا. لم نفقد الكثير, فما زال هنالك متسع من الوقت لتغيير المسار, فالسر يكمن في التوازن, فبدلاً من فعل كل شئ بشكل أسرع, نفعل كل شئ بالسرعة الصحيحة. أحياناً بسرعة, وأحياناً ببطء, وأحيانا ما بين السرعة والبطء. وإتباع حركة البطء يعني أننا لن نستعجل, ولن نسعى لتوفير الوقت من أجل توفيره فقط. بل يعني الحفاظ على هدوئنا, وضبط أعصابنا حتى عندما تجبرنا الظروف على الاسراع. لا توجد صيغة إبطاء ذات مقاس واحد يناسب الجميع, ولا دليل شامل للسرعة الصحيحة, فلكل شخص, ولكل عمل, ولكل وقت إيقاعه الخاص. تمتلك حركة البطء اليوم زخمها وقوتها الدافعة الخاصة في جميع أنحاء العالم. فرفض السرعة يحتاج إلى شجاعة, وطبيعة مغامرة, وفيها الكثير من التحدي للمحيط, وخاصة مواجهة موجات الاستهجان, والسلبية, وتثبيط العزائم من الأشخاص الذي باتت حياتهم كالسباق في كل شئ. من يقررون الابطاء في حياتهم, يجب أن يعلموا أنهم ليسوا وحدهم, وأن ثمة آخرين يشاطرونهم الرؤية نفسها, ويشاركون المخاطر ذاتها. فحين يجني الناس ثمار التباطؤ في أحد ميادين الحياة, فإنهم غالباً ما يطبقون الدرس نفسه في ميادين أخرى. تمنحنا فلسفة البطء المتعة المعنوية المفقودة, والتي عادت ما نعوضها بمتع مادية استهلاكية سريعة الاضحملال. فلسفة البطء توفر السعادة مهما كان تأثيرها في الميزانيات الاقتصادية: صحة موفورة, وبيئة مزدهرة, ومجتمعات قوية, وعلاقات متينة, وتحرر من كابوس الاستعجال الذي لا ينتهي.