
قراءة في كتاب هجر في عصور ما قبل التاريخ، للمؤلف طاهر بن معتوق العامر، الطبعة الأولى / 1445 هـ
جزء من المقدمة:
منذ مدة قد ألقيت قلمي على الطاولة، وما أن وضعت أصابعي عليه لحمله خيل لي كأنه قد أفاق من سباتٍ طويل مبتسما متفائلاً حتى سقط من بين أصابعي عليها وكأنه يقول لي: ها أنا ذليل بين يديك، أكتب بي ما تشاء بما يعود بالفائدة على المثقف والباحث.
أقول منذ اتجه فكري لكتابة كتاب عن هجر في عصور ما قبل الإسلام وبدأت بالبحث في المصادر التي أتوخى أن فيها غاية ما أطلبه وأن أجد ضالتي فيها وجدت نفسي أمام بحث متشعب الأطراف، إلا أني رأيت ما بذله الكثير من المتخصصين في مجال التنقيب والبحث والرصد من الأجانب والدارسين العرب والمجهودات التي قاموا بها وما زالوا يواصلونها وإن أعطت ثمارًا لا تنكر ولا يستهان بها اعتقادي بها.
الحالة الثقافية ومرحلة بدايتها إلى تطورها:
منذ آلاف السنين وقبل أن يعرف الكثير من الناس الكتابة والقراءة أخذ يعبر عما يجول بخاطره برسوم ورموز كان ينقشها على جدران الكهوف والجبال وبعض الرقم الطينية والتي بقي منها الكثير إلى الآن، تخبر عن معاناته مرة وعن أفراحه مرة وعن ما يجول في خاطره من معتقدات وسؤاله عن الخير والرزق والمطر وغيره ممن كان يعبده ويعتقد به كإله.
وما زال على هذا المنوال حتى عرف الكتابة فتوسع في نشر ثقافته الكامنة داخله وكتب الشعر في المدح والرثاء والحب العذري والغزلي ومدح من يحب وذم من لا يحب والتقرب للملوك والسلاطين وأصحاب المكانة العالية في المجتمع وبالغ في ذلك وكتب الملاحم والمعلقات.
(والمعلقات التي نضمها شعراء جاهليون معروفون من أهل الجزيرة العربية مهد العروبة والإسلام وهي سبع معلقات أو عشر وقد سماها العرب معلقات، لأنهن عُلِّقْنَ بالكعبة في الجاهلية القريبة من عهد الإسلام تقديرا لروعة لغتهن وأسلوبهن العربي الممتاز على ما ورد في المراجع التاريخية والأدبية العربية. وكانت هذه القصائد تلقن في ثلاثة أسواق عربية هي: سوق عكاظ وسوق مجنة وذي المجاز.
وهذه الأسواق الثلاثة في أماكن قريبة من مكة المكرمة وتحوز القصيدة الملقاة في سوق من هذه الأسواق استحسان الجمهور العربي المستمع لها في السوق الملقاة فيه، فتفوز بتقدير يتمثل في (تعليقها) في الكعبة بعد أن تكون كتبت على الحرير المصري بأحرف من الذهب، وموضوعات المعلقات غالبا هي: الحب والحرب، وربما الحكم والصيد ومغامرات الشاعر في رحلاته).
ولما كان لموقع هجر والساحل الغربي للخليج العربي عموما مكانة مرموقة في الأدب والفصاحة وقد نبغ منهم الكثير في مجال الشعر ومنهم على سبيل المثال شعراء بني عبد القيس في الفترة التي سبقت الإسلام وبعد ظهور الإسلام فقد اخترت من بينهم من استطعت أن أصل لاسمه ومنتجه من الشعر مكتفيا بذكر بعضهم حتى لا أخرج عن مجال بحثي.
المجموعة الجنوبية (الكتابة بالخط المسند):
تنتشر أنواع عديدة من الكتابات في ربوع الجزيرة العربية ذات أصل، من المجموعتين الرئيسيتين في اللغات السامية، المجموعة الجنوبية (الصيهدية أوالمسند ومنها السبئية والمعينية والقتبانية والمجموعة الغربية (الآرامية والفينيقية).
إن سكان الجزيرة العربية أنشأوا لهم حوالي سنة 1000 ق.م، نمطا من الكتابة الأبجدية للغتهم له صلة باللغات السامية التي كانت سائدة في بلاد الشرق وهذا التاريخ (سنة 1000 ق.م) في الواقع يطابق تاريخ ممالك جنوب الجزيرة العربية التي دخلت عهدا من التوسع التجاري صادف من حيث الزمن نمو أسواقها خلال الألف الأول ق. م.
الخط المسند وإشكالية تسميته بهذا الاسم:
كونت كلمة المسند في مخيلة (إسرائيل ولفنسون) ولدى (ليدز باسكي) فكرة استناد خطوط الحروف وقيامها بعضها إلى بعض استناد المباني، وقد وجدا من مباني اليمن وقصورها ما قوى هذا الخيال عندهما، مع أن كلمة (المسند) التي تطلق في المؤلفات العربية الإسلامية على خط أهل اليمن قبل الإسلام لا علاقة لها بالقصور والمباني، واستناد أجزاء الحرف الواحد بعضها إلى بعض، وإنما تعني شيئا آخر، تعني خط أهل اليمن القديم لا أكثر ولا أقل.
وكلمة مسند في العربية الجنوبية تعني (الكتابة) مطلقا، وقد وردت في مواضع متعددة من الكتابات والنقوش، فورد في نص أبرهة مثلاً ( سطرو ذن مسند)، وترجمتها (سطروا هذه الكتابة)، وتؤدي كلمة (سطروا) المعنى نفسه الذي يرد في لغتنا، وهو : (سطروا ) أي كتبوا ودونوا، حيث صارت (المسند) في عربيتنا تعني في العربية الجنوبية ما تعنيه كلمة الخط أو الكتابة في لغة القرآن الكريم ولم تكن مخصصة عند اليمانيين بخط حمير أو غير حمير، وإنما حدث هذا التخصيص في المؤلفات الإسلامية فصار فيها (المسند) اسم علم الخط حمير وحده، ولا ندري متى حدث ذلك أحدث في الجاهلية المتصلة بالإسلام أم في الإسلام نفسه.
وللمسند ميزات امتاز بها عن القلم العربي، فحروفه منفصلة، وهي بشكل واحد لا يتغير بتغير مكان الحرف من الكلمة. وقد جعلت هذه الخاصية لهذا القلم ميزة أخرى، هي ميزة الكتابة به من أي جهة شاء الكاتب أن يبدأ بها، فله أن يكتب من اليسار إلى اليمين، وله أن يكتب من اليمين إلى اليسار، وله أن يمزج بين الطريقتين، بأن يكتب على الطريقة الحلزونية من اليمين إلى اليسار ثم من اليسار إلى اليمين أو العكس، وله أن يكتب من الأعلى إلى الأسفل أو من الأسفل إلى الأعلى وهكذا، ثم أن حروفه غير متشابهة لذلك لم يعرف المسند الإعجام، ولو كتب له أن يكون قلم المسلمين ليسر لنا اليوم وقتا ومالا في موضوع الطباعة.
ولكنه أبطأ في الكتابة نوعا ما من الخط العربي، لشكل حروفه الضخمة بالنسبة إلى الحروف العربية المختزلة، فالخط العربي يمتاز عليه بهذه الناحية فقط. أما موضوع الشكل، فالمسند غير مشكول، بل يكتب بحروف صامتة فقط.
النقوش الأحسائية:
لم تكن الكتابة خلال القرون السحيقة أو بعبارة أخرى مرحلة ما قبل الكتابة أو الحضارة الشفوية أو فترة ما قبل التاريخ معروفة.
بدأ الإنسان باستعمال رموز وصور يستدل بها على مراده حتى تطور في أسلوبه تماشيا مع متطلبات تلك الأزمنة حتى اهتدى إلى ابتكار الكتابة واستبدلها عوضا عن تلك الرموز ولم تكن هذه النقلة وليدة لحظة محددة بل سبق ذلك تجارب وتمارين أملتها عليه ظروف حياته وتعاملاته البشرية والاقتصادية.
ومثالا على ذلك:
ما قسمه علماء الكتابات العربية القديمة الكتابات العربية الجنوبية وشملت السبئية والمعينية والقتبانية والحضرمية والحسائية، والثيوبية والكاتبات العربية الشمالية الديدانية واللحيانية والثمودية والصفوية.
وقد أطلق عرب جنوب الجزيرة العربية على خطهم الذي كتبوا به لغتهم العربية منذ القرن الثامن قبل الميلاد وحتى القرن السادس الميلادي إسم الخط (المسند)، حيث انتشر هذا الخط عن طريق التجارة إلى كافة مناطق الجزيرة العربية وخارجها.
لقد عثر على الكثير من النقوش الحسائية في شرق الجزيرة العربية في القطيف، والعوامية، ورأس تنورة، وعين جاوان، والجبيل بري، وبقيق، والحناء وواحة الأحساء، وخاصة في ثاج حيث عثرت في هذه على شواهد القبور.
أ- كشواهد قبور.
ب – طبعات على الفخار.
ج – عملات.
د نقوش أخرى.
وهذه المواد هي أكثر الموجودات وهي نصوص حسائية، وسميت حسائية لأنها وجدت في منطقة الأحساء والمناطق التابعة لها.
لغات لها تاريخ مع اللغة العربية:
تعددت اللغات التي كانت تاريخ مع اللغة العربية الارتباط التجاري المتبادل بينهم وبين البلدان الأخرى ومن بين هذه اللغات اللغة اليونانية، وهي لغة من اللغات الإغريقية تلك التي تنتمي إلى الفصيلة الهندية الأوربية وموطنها الأصلي اليونان.
ثم انتشرت في الشرق الأوسط بعد فتوحات الإسكندر الكبير (356 – 334 ق.م) الواسعة التي أخضعت الشرق من مصر إلى جيحون للحكم اليوناني.
وبعد موت الإسكندر قسم مستعمراته أربعة من قواده أشهرهم بطليموس وسلوقس، وخلال ثلاثمائة سنة لحكم اليونان كانت اللغة اليونانية قد أصبحت لغة التفاعل في سوريا وغيرها من البلاد الخاضعة للحكم اليوناني.
ومن خلال هذا التفاعل تعددت الكلمات اليونانية في العربية في الزمان المتأخر.. ومن أقدمها الفندق، والأزميل والزوج، والجنس، وقد دخلت في اللغة العربية في العصر العباسي عشرات من الكلمات اليونانية عن طريق ترجمة الكتب في الطب والفلك والفلسفة كالقولنج والبلغم، والمالينحوليا، والإسطرلاب والفلسفة والهيلولي.
هوس حب الكتب فطري أم خيال وأحلام:
منذ القدم ومنذ عرف الإنسان القراءة والكتابة صار لديه حب الاطلاع وكثرة المعرفة لديه وغزارتها فأصبح لا يشبع من جمع الكتب نادرها أو حديثها وأنشأ المكتبات الخاصة والعامة وحيث إني تطرقت للكتابة وأنواع بعض خطوطها رأيت أن أورد هذا النص المختصر لأعطي فكرة عن تخيلات بعض الأمم عن الكتب وأهميتها، فمثلاً يقول لنا التلمود بأنه وجدت مكتبة ضخمة قبل خلق العالم.
إن المكتبة ترتعش في خيال البشر وأحلاهم وهلوستهم حتى قبل وجود الكتاب، أما (بيروز) الكاهن في ظل الإسكندر المقدوني تاريخ الحضارة (طبقا للمصادر القديمة) فهو يقول لنا بأن عاصمة العالم قبل الطوفان ما كان اسمها الا: جميع الكتب! ثم يقول: بأن نوح دفن كل الكتب التي كان يملكها في الأسابيع القليلة التي سبقت هذا الحدث الخطير: الطوفان.
لقد دفن الكتب (الأكثر قدما والقديمة والحديثة) لأنه اعتقد بأن وزنها الثقيل سوف يغرق السفينة، ويبدو أن المكتبة الكبيرة المفترض أنها أقدم مكتبة في العالم كانت أكثر مقاومة للزمن من أخواتها الحديثات. وذلك لأنه لا يمكننا اليوم أن نراها أو نلمسها باليد ونقرأ كتبها العديدة بكميات كبيرة. وكل ذلك بفضل متانة نصوصها التي كتبت على مواد صلبة. فأولى النصوص التي سجلت قبل أن تظهر الرغبة في حفظها وجمعها في مكتبات حوالي عام 2500 قبل الميلاد كانت قد استخدمت من قبل بناء (أوروك) من أجل إقامة جدرانه بمهارة أفضل.
فعلى الفخار الذي التقطوه بين دجلة والفرات كتبوا اللغة السومرية- الأكادية المدعوة باللغة (المسمارية) وهي تسمية عمومية مبتذلة. وهذا الفخار أو الصلصال استخدم كوسيلة لتسجيل حوالي عشر لغات مختلفة.