
من الأمور الهامة التي استوقفتني لأقرأ رواية (قنطرة) للروائي السعودي الأستاذ أحمد السماري، وبالأخص أكتب عنها، هي التقنية التي استخدمها في عرضها.. نعم إذ لا ريب في أن التقنية الجيدة من الأمور الأساسية الهامة في تشكيل النص حيث تكسبه الخفة والسهولة وحالة التشويق والجذب للأخذ بكل ما يحويه النص. والتقنية هي تبيان كل العناصر الرئيسية التي تجعل قراءة الرواية ممتعة، ومثيرة للانتباه والاهتمام، وتخلق لدى القارئ الرغبة والشغف في متابعتها، فتسحبها وتحللها واحدة واحدة، بهدف الوصول إلى مجمل تقنيات الكتابة والتي يؤدي حسن تطبيقها إلى نجاح العمل الروائي، وإلى انتشاره الواسع.
الرواية كانت لها هذه السمة الجمالية التي لعبت دوراً كبيراً في احتواء القارئ والمتلقي، حيث جاءت فصولها الأربعة، التي أخذ كل فصل مسماه من فحوى ما اندرج تحته، وقُسِّم كل فصل أقسام تصل إلى خمسة. كان كل قسم منها يُروى بصوت شخصية مختلفة، تأتي الشخصية المعنية في الوقت المناسب وتسرد قضيتها وما جرى ويجري عليها، وفق تكوين شخصيتها ووفق ترتيب الأحداث، ثم توجد رابطتها وعلقتها الفلاذيتين بالشخصية الرئيسة بل وما سارت أو وصلت إليه الأحداث بنحو سهل هادئ مشوق فيه من اللامباشرة في طرح الذات المتكلمة ليُعمل وتشد عقل القارئ للاكتشاف والمشاركة .
واعتمدت التقنية على السرد المتسارع في تقديم الأحداث، قل فيه الحوار الذي لا يحضر إلا عنوة ورغماً على الراوي للحاجة الملحة، ومعتمداً في كثير من المواقف على توصيف الحالة النفسية والوجدانية وردات الفعل التي تود الشخوص تقديمها للآخر بذكر جملة من قصائد الشعر الملحنة والمغناة من قبل فناني الغناء والطرب الشعبي في المملكة، وقد همش الراوي روايته بذكر أسماء أولئك المغنين كنوع من الحفاظ على حقوقهم الملكية والتأكيد على أنه تراث للبلد مستقى منه، وفي تصوري هي محاولة ذكية من الكاتب لإدراجهم ضمن الذاكرة النقية التي يرجو ويأمل أن تخلدها الدهور. فهذا المسلك الأخير هو من عيون ماتهدف إليه الرواية (قنطرة) التي سعت في سرد حياة فنان من فناني الطرب الشعبي من زمن بداية التسعينات إلى تقريباً هذا الزمن الذي نعيشه. الفنان يدعى (وحيد بن حمد فرحان) وهو بالطبع اسم افتراضي لشخصية واقعية كما أشار في مقدمة الرواية، وأسمته أمه وحيداً عوضاً عن (حيدر) الذي أطلقه عليه أبيه قبل أن يموت، متنبأة أمه له بما أنه (ولد وحيداً) فإنه ( سيعيش وحيداً، وسيموت وحيداً).. وعلى هذا التنبؤ البائس سارت مجريات الرواية في أمكنتها وأزمنتها المتباينة، في سرد تفصيلي فطن، غير ممل، ولا ثقيل، ولا يرهل النص أو يكون عبئاً زائداً عليه، وقد أبرزت التفاصيل في الرواية وعي الشّخصيّة وفرادتها، وأسهمت في رسمها بطريقة تختلف عن طرق تقديم الشّخصيّات المعهودة في السّرد الروائيّ، ولعبت دوراً مهمّاً في إحداث تماسك نصّيّ فأحكمت الصّورة الروائية وأبرزتها.. وتأتي أهمية التفاصيل هنا من قبل راوٍ عليم، قوامه سيرة ذاتية، كما أشار إليها في التقديم، وأيضاً تبيان كل نقطة لها ذات أهمية فائقة لحضور المشهد كاملاً بلا خلل، لتترك في الذهن الصورة المراد إيصالها بفاعلية كبيرة، فلا تنسى، فضلاً عن الظفر بتفجير الأثر الوجداني / العاطفي في القارئ والمتلقي تجاه الشخوص بأكملها وإن كان التركيز الأكبر على شخصية (وحيد) كشخصية حاسمة، بطله، تكللت حياتها بمختلف القضايا المقيتة التي أعاقتها عن السير قدماً في تحقيق هوايتها في فن الغناء الشعبي، الأمر الذي جعلها في معاناة مستمرة، ومكابدة فائقة، كأنه لا يشهد لها مثيلاً في وسط الفنون المختلفة، إذ أنها الأعلى مقاماً ورتبة على تلك الفنون، والأكثر مواجهة وحرباً من كثير من فئات المجتمع بل ومن بعض رجالات الهيئة الذين تصرفوا باسم الدين والدولة التي جرت على أرضها مجمل الأحداث.
وحيد الذي مذ نعومة أظافره انسلخ عن أمه التي تزوجت بعد وفاة والده بعد معيشة ضنكة قاسية جبارة، وأخذت معها بقية أخوته إلى بيت زوجها، استأثر البقاء وحيداً في منزل والده، منقطعاً عنهم، ملتفاً على تحقيق حلمه بأن يصبح فناناً مشهوراً، يقدم الفن الشعبي على عود وكمان ومرواس بكلمات أكثر نقاء وفائدة للمجتمع، هذا الوحيد، بتتالي الزمن عليه اعترته كثير من التحديات والمشاكل والقضايا، كألغام أرضية مقيتة، حاولت في كل مرة أن تكسر منه ثلمة، وما أن يرممها ويعالجها ليقف على قدميه فارساً بعنفوان ومكابرة وتحد، حتى ينفجر تحت قدميه لغم آخر يعيده إلى نقطة الصفر والتردي، إلى أن أصيب في عمر ناهز الستين، عمر الهرم والشيبة والكهولة والشيخوخة، عمر تمكن الدنيا وتسلطها منه، أصيب بمتفجرة من العيار الثقيل كسحت قدميه تماماً، وهي أن أتهم بقتل رفيق دربه المرواس، فحكم عليه بالسجن عشر سنوات، إلا أنه لم يكمل المدة لدخوله في نوبة نفسية فقد معها ذاكرته، فأخرج من السجن وترك على قارعة الطريق يواجه ويصارع قدره، لكن الأمنية بقيت في عنفوان وإصرار تعمل في ردهاته تلازمه وتحاول أن تعيد فيه الحياة كما بعد كل لغم، فلم تجد، إذا ماذا بعد أن يهزم ويهترىء الجسد وتُفقد الذاكرة، هل ستعيش الأمنيات والآمال؟!!!. والفنان وحيد لم يتزوج فقد بقي مخلصاً ووفياً لحب جارته المغنية الشعبية أيضاً (سارة) التي بدورها أيضاً بقيت تنتظره، لكن بمكر ودهاء من جارهم (عبدالله) تزوجها، ثم انفصلت عنه بعد أن اكتشفت وهي في حالة مرض سرطاني أنه لا يحب الا مصلحته ولم يقف معها في أزمتها.
أغلب مجريات الأحداث جرت في حارة من حارات مدينة الرياض تسمى (الطرادية) قديمة في مجمل مكوناتها ومختلطة الجنسيات ذات الدخل المحدود والمعدم متعددي الهوايات والتركيز هنا على فن الغناء والطرب الشعبي المقدم من الرجال والنساء ولعبة كرة القدم، الحارة التي (سرعان ما تحولت وتغيرت سريعاً نتيجة طفرة البترول وأسعاره)..
إصرار كبير جداً، وضح لنا ما يعانيه الفن الشعبي وفنانيه وشعرائه وملحنيه، من صراع وقسوة جبارة تمارس عليهم، في الظاهر والباطن، ليس فقط من المعادين له، بل حتى من ذوي الفن الغنائي قرينه المسمى بالفن الغنائي الجديد المتطور الذي استولت عليه وعلى القائمين عليه الشركات المدعية بخدمة الفن وهي خلف الكواليس تمارس دورها الاستغلالي العفن لجذب أكبر قدر من الجمهور وكسب المال لا لسواه. ثم استغلالهم من قبل كبريات الشخصيات كقنطرة ترفيه وحط أثقال وهموم، بريالات معدودة غير آبهين بما عليهم من مسؤولية تجاههم. بل أسوأ مواجهة واستغلال كانت من أفراد مجرمين حاولوا سرقة المتعة منهم ثم سلبهم كل مقتنياتهم وتركهم عراة في البر والصحراء التي لا ترحم يواجهون الموت. إذ ما ندركه جيدًا، قدرة الألم على صقلنا وشدة احتمالنا له ولو تأملت حال الدنيا لرأيت أنها متواليات من الآلام في جوهرها، وما مشاكلها إلا ألبسة تتلبسها هذه الآلام لتغير من مظهرها ولتحقق هدفها: إلى أي مدى ستنجح في اختبارك؟.
هذا هو تقريباً مختزل الرواية، التي جاءت في مئة واثنين وثمانين صفحة، في كتاب من القطع المتوسط، حملت عنوان (قنطرة) أي الجسر أو المعبر، إشارة إلى الحالة الاستغلالية الفضيعة التي مر بها الفن الشعبي ومرت بها أبطاله أجمع من كل الاتجاهات المختلفة، سواء على مستواها المعنوي أو المادي، الذاتي أو العائلي، حتى أمسى ذلك تقريباً في عالم الذكرى الذي يقف بعض فناني هذا اليوم على أطلاله ويُقلد ويُردد بعضه على استحياء وخجل في دور مسورة مستورة ومغلقة. إذ أن الصورة التي رُسمت له صورة قبيحة وقحة، استقيت من مغنين شعبيين لم يحترموه كفن طيب نافع بقصائد كتبت ولحنت لا ترتقى إلى الذوق العام وإلى الشريعة المحترمة، بل أخذت صورة سيئة عن شخوصه الذين يظهرون في حال مترد لا يليق بالمجتمع وبالأحرى للدين، فحظي بحرب شرسة عليه لاسيما من رجالات هذا الأخير.. الرواية تدافع عن هذه النظرة الدونية بشراسة، محاولة منها تلميع صورة المغنين، رغم أنها من جانب آخر كانت منصفة في إظهار أغلب شخوص هذا الفن بمظهر جعل ممن يقف في مواجهتم يمتلك الحق والصدق والحكم الصادق وليس باتهام أو تدليس، بدليل اعتمادهم على القصائد الوجدانية والغزلية تحديداً المؤججة لعاطفة الشهوة الجنسية والحب والوله، وتناول المسكرات على أثر سماعها، وخروج النفس عن شكلها الطبيعي الطيب إلى شكل شيطاني لا يعي ما يصنع أو ما يقول. ولم أورد الأدلة والأمثلة التي تعضد ما اذكره درءاً من إطالة المقال ولنترك القارئ النهم يقتطف الثمار اليانعة بنفسه.
وأخيراً الرواية تخوّل الكاتب مخاطبة القارئ مباشرة، وتتيح له أيضًا أن يصبح هذه الشخصية الروائية من داخلها، أيّ أن يتلبّس انفعالاتها ويتكلّم عنها مباشرة كأنّ علاقته بالشخصية هنا ليس مع الذاكرة فقط بل الواقعية ليلقي بهمها الكبير في قلب القارئ والمتلقي فيثير حفيظتهما ويقنعهما للتعاطف مع الفنانين الشعبيين من زاوية أنهم أسوياء، صالحون، خيرون، متعاطفون، ودودون، محبوبون.. الخ من الأمور الإنسانية، تُظهر الرواية هذا الجانب بنحو فعال كبير، وتدعوه بأنه منهج الروح الطاهرة، وتشحذ له همة اللفظ المحبب والعبارات الذكية بأسلوب هادئ رزين جذاب، يملكك منذ أول سطر تبدأ به الرواية ويستدرجك إلى أن تنهيها، وعليك أن تشحذ همتك في الخروج من هذا المأزق إن كنت وعيت وتريد الخروج منه. وهذا كما أسلفنا ذكاء وفطنة عظيمة من الراوي الذي استفرغ همته في إظهار روايته بهذا المستوى من الجذب.
قاص وروائي سعودي