
رواية (العائدون من الغرق) للكاتب الأستاذ موسى الثنيان، يُعرف النمط السردي فيها بالنمط الحكائي الخبري، وذلك لأنه يعتمد على الجمل الخبرية التي تحاول أن تزودك بالمعلومة الواضحة الجلية الجاهزة عن الشخوص وعن الزمان والمكان وما يجري فيهما، بعيداً عن تعقيد وتشابك الأحداث وكثرتها، الأحداث التي تعرض الوقائع على أساس ترتيبها الزمني بدقة، وبعيداً عن المحسنات والمظاهر اللغوية البديعة، لغة فنية غير متعالية، وكذلك بعيداً عن عبء الخيال وكثرة الصور التي تفتح أبعاد وعي ومشاعر وشهية المتلقي وتستدعي عقله للعمل والمشاركة.
جاء السرد في الزمن الماضي، غلبت عليه حالة التذكر، قل فيه الحوار، أسلوب متسق متتابع متسلسل رشيق مشوق متسارع لمن يستهوي التسارع السردي للأحداث، ومعرفة النهايات، والشخصيات – نوعاً ما – أجمعها جاءت متطورة متغيرة لا تجري مجرى الأحداث ولا تنتظر إمداد الآخر وليست مستسلمة للقدر كيفما حكم.
هذه الرواية التي وقعت في ١١٩ صفحة، وتعد قصيرة نسبياً، وتقرأ في ساعة ونصف الساعة تقريباً، تتلخص في شخصية الحاج علي، صاحب الدكان، الذي خان الأمانة التي أودعها لديه صديقه أثناء سفره، متذرعاً بما ألمَّ به من فقر وعوز وخسارة في التجارة، وحين مطالبته، ولم يستطع تأدية الأمانة، أودع السجن، إلا أن ابنه الأكبر تحمل تبعات الأمر ليقاد الى السجن بدلاً عنه، وابنته التي فقدت بعلها في البحر أثناء الغوص، في حالة من حالاتها النفسية، ذهبت إلى العين (النبع) الغزيرة الواقعة بين أدغال النخيل، مخلفة ابنتها في البيت مع أمها، وألقت بنفسها في الماء، لتموت غرقاً في حالة سريالية هي كالحلم أو هي كالخيال.
ومن هنا تنشأ إشكالية العنوان: كيف هم عائدون من الغرق والكل غرق بلا عودة؟ فيبدو لي كأنه يقول بأن المقصود من العائدين هم الآخرين الذين عادوا من الغوص والعين (النبع) ومن شدة وقسوة الحياة، عادوا سالمين ولم يغرقوا، وبدورهم راحوا يروون هذه الرواية لنا، وليس غيرهم.
وفي ثنايا ملخصنا المذكور آنفاً، استحضرت الرواية كإشارات متسارعة:
– مأساة وقعت على مجمل بلدات القطيف، وهي مأساة الجوع والفقر المدقع والعوز، كآثار للحرب الهتلرية.
– الآثار المترتبة من وقوع سنة الطبعة التي فقدت فيها القطيف أناسي وأملاك كثيرة.
– بعض العادات والتقاليد والأعراف في المناسبات، لاسيما في مناسبات زفاف الفتاة إلى زوجها.
– عادات وعمل البدو والرعية في الصحراء ومسوغات ارتباطهم بالحضر.
– رجال الغوص في البحر الذين يبحثون عن اللؤلؤ، وكيفية عملهم، وبيان تصرفهم عندما يفقد أحد المراكب غواصاً في لحظة تخيرهم ما بين متابعة أيام العمل والحزن أو العودة منه ومشاركة الأهل الألم.
– طريقة تجارة اللؤلؤ، مابين القطيف ودول الخليج وبين الهند، والغش فيه.
– بيان موقف بعض رجالات القطيف من العمل في شركة الزيت، أرامكو.
وهذا كله يمنحنا ملاحظة هامة، وهي أن الرواية تعتمد على الوقائع الحقيقية والتاريخية، وهنا تكمن المخاطرة السردية، حيث بعض كتاب السرد وبعض النقاد يتفقون على أن استدعاء التاريخ في الروايات يعد ﻣﻮﺿﻮﻋﺎً ﻏﻴﺮ ﻣﺮﻳﺢ، وغير مطلوب البتة، ليس ﻷنه يعتبر ﻣﺎﺿﻴﺎً وﻻ ﻳﺠﻮز اﻟﻌﻮدة إﻟﻴﻪ، ومسبباً لإشكاليات نفسية تعيد الألم والوجع، بل إن الإشكال يكمن في فنية السرد تحديداً، حيث أن رؤى وأﻓﻜﺎر وخيال الروائيين تتمازج وتزاوج مع الحقيقي والتاريخي، فيتم تطويع النص التاريخي والواقعي لتلك الأفكار والخيالات ووفق أحكام النص الروائي كتقنية سردية ضرورية، فتنشأ حالة تشويه للتاريخ وتغير وجهه الحقيقي. ومن هنا أري أن ما حصل في هذه الرواية من اعتماد السرد على الجمل الخبرية التي تحاول أن تزودك بالمعلومة الواضحة الجلية الجاهزة عن الشخوص وعن الزمان والمكان ووضوح العبارة وصراحتها في إخراج الحال دون العروج إلى الخيال ومحسنات اللغة، كما أشرت في البدء، هو الأمر الذي يجب أن يتبع في مثل هذا العمل الاستدعائي، وقد عمل به الراوي مضطراً ومرغماً سواء تنبه له أم لا، متخلياً عما يريده كتاب الرواية المنفتحون على شهية السرد المتجاوز المحقق لما في ذات الراوي وليس في ذات غيره.
هذا ونسأل الله أن يوفق الكاتب ويتحفنا بأكثر من هذا الجمال
كاتب وروائي