
بعض الأفكار أشبه بالومضات إذا لم تقبض عليها فقد لا تمسك منها سوى الحسرة وأنت تتذكر مرورها الخاطف. لهذا تعلمت أن لا أفوت أي فرصة من هذا النوع.
قبل أيام جاءت شاردة وأنا أقود سيارتي على الطريق، وفي نقطة بين مصنع الثلج القديم والمزارع التي تحولت الى سكن للعمال، أوقفت السيارة على كتف الطريق وبدأت أكتب: حديث البارحة يؤكد لي بأن قلبي لا يطاوعني بأن أتخلى عن صديق عمري وهو …
شرد بصري خارج السيارة، رأيت عصفوراً يرفرف بجناحيه على ارتفاع بسيط من وجه الشارع الأسود.
حركة هذا الطائر الملفتة أجهضت النطفة، منظره ذكرني بسنين الصبا ونحن نصطاد العصافير بالفخاخ الحديدية، أعرف تماماً بأن هذه الحركة تفعلها الطيور “العيارة” فقط، أي تلك التي ارتفع منسوب ذكائها بعد نجاتها من موت سابق، ولكن هنا لا يوجد حبالين ولا فخاخ منصوبة.. قادني الفضول لمتابعة المشهد.
هناك صوت سيارة قادمة من الشمال، طار العصفور الى شجرة قريبة وعاد مرة أخرى بعد أن خلا الشارع وحط قريباً من نفس النقطة وليكرر نفس المشهد “الهيلوكبتري” لثوان ثم يحط على الأسفلت، وهو يقترب ببطء وحذرمحاولاً أن يلتقط أو يحرك شيئا ما، صوت سيارة ثانية تدفعه لمرفأ الأمان السابق، ثم عودة ثالثة الى نفس النقطة وبنفس الإيقاع ..
الفضول دفعني للخروج من السيارة لرؤية ذلك الطعم الذي يجذب هذا الطائر، رأيت على وجه الأسفلت جسد عصفور مرصوع، أحشاؤه لا زالت طرية ودمه البسيط لم يبق إلا أثره، كان جناحه الأيسر مرتفعاً كشراع قارب صغير، تهبهبه الريح.”
انتهت القصة
مددت بالورقة لصديق كان يجلس في الصف الأمامي، بعد أن انهى القراءة علق قائلاً: شعرت بأن هناك خطاً وهمياً في النص، جزء من النص يعود الى مرحلة ربما قديمة بعض الشيء وجزء آخر يعود الى مرحلة أخرى مختلفة وتم المزج بينهما، أنا أتذكر (والكلام لصديقي) بأنني قرأت نصوصاً سابقة لك، رسائل (مواضيع) نصوصك مختلفة وترميزاتها تحمل الهم الإنساني، ولكن في البنية، أنت تحب دائماً أن تكون الدهشة في نهاية النص (فلاش باك)، على الطريقة الكلاسيكية في السرد، وهذا النص لا يختلف من حيث البنية والطريقة عن الأسلوب السابق.
استعدت ورقتي (قصتي) من الصديق وأنا أسأل نفسي: في اللوحة التشكيلية يكون الكولاج واضحا وصريحاً، ولكن في السرد هو غير ذلك، فكيف يتمكن القارئ من رؤية الخط الوهمي في النص السردي؟
كتبت التعليق التالي على ظهر الورقة أقول فيه:
هناك لحظات حين نقرأ أحد النصوص السردية، قصة قصيرة أو رواية نشعر بأن هناك حدثين مختلفين المكان والزمان قام الكاتب بدمجهما في قطعة واحدة، ولكن رغم عملية المزج هذه يبقى أن هناك خطاً فاصلاً خفياً بينهما.
السؤال هنا: كيف يستطيع بعض القراء من الإحساس بوجود هذا الخط الى درجة ملامسته وتحديد مكانه؟
يبدو لي أن من يمتلكون هذه الحساسية العالية في التذوق والنباهة الثقافية أغلب الظن أنهم:
– قد عايشوا تجربة الكتابة السردية بعمق وكذلك تجربة التذوق النقدي للنصوص السردية، تذوق وصل الى درجة الصفاء التي يبلغها الفنان الموسيقي وهو يستمع أو يعزف أي مقطوعة موسيقية.
– لديهم ثقافة في عدة حقول فنية وثقافية تساعدهم على استشعار الخطوط والانتقالات التي من الصعب على الشخص أو القاريء العادي تلمسها أو الإحساس بها.
هذا الخط، الذي تحدث عنه الصديق كان بالفعل موجوداً، وعمره يمتد على عشرات السنين، هو أشبه بالحدود القديمة التي كانت تفصل بين الحقول الزراعية، حيث كان يعرفها ويستدل عليها أصحاب الحقول والمزارع دون أن يعرفها أي شخص غريب على تلك الأرض، لأنها بكل بساطة موجودة ومسجلة في ذاكرة الفلاحين والملاك بوضوح ودون أن تكون هناك عقود أو صكوك ملكية تحدد تلك الخطوط الفاصلة، والأكثر إثارة هو أن بعض الفلاحين يعرف الحدود بمجرد ملامسة قدميه للأرض أو تلمسه لبعض أوراق الأشجار، ولقد عايشت، وأنا طفل، في ليلة من الليالي المظلمة هذه اللحظات و أدهشتني تلك الفطنة التي لا زلت استغربها الى هذه اللحظة.
مددت الورقة الى صديقي. لحظات وإذا بي أسمع ضحكته المجلجلة وهو يقول: ما شاء الله، مداك تكتب مقال عن الموضوع! بعدها سمعنا صوت المضيفة:” .. نحن على مقربة من .. الرجاء العودة الى مقاعدكم وربط احزمة المقاعد استعداداً للهبوط..”.