يتمايز الناس فيما بينهم بجودة عطائهم وقوة أعمالهم ووفرة نتاجهم الذي يصب في خدمة وطنهم ومجتمعهم فيشتهر ذاك الرجل بيده التي تمطر على المحتاجين وتساعد المعسرين فيبدو علمًا يشهد بفضله من تلمس نيله ، ووقف على جهوده .
ويبرز آخرٌ بوقوفه على متابعة قضايا مجتمعه الخدمية والبلدية والحكومية فتراه كالنحلة تمتص رحيقها من أجمل المنابع والزهور ولا تتوقف عن العمل وهذا الرجل الباذل يعمل على مصالح أهله وأقاربه دون أجر وفي أغلب الأحيان بدافع ذاتي ومسؤولية اجتماعية تعوّد عليها لسنوات .
كما تشاهد ذاك العالم الذي سعى في خدمة المجتمع وسخر إمكاناته بما لديه من علم لينقل الناس من ظلمات الجهل إلى نور العلم عبر تنويرهم وتبصيرهم بما يحتاجونه في عباداتهم ومعاملاتهم إذ يقف مجيبًا عن تساؤلاتهم ويؤدي معهم الفروض اليومية متحملاً عبء الأمانة وعمق المسؤولية ساهرًا ليله ينظر في مختلف القضايا التي تأتيه من هنا وهناك .
في كل بقاع الأرض نجد أنموذج العامل الذي أخلص وتعب وجاهد بوقته وصحته ليقدم ما يرضي طموحاته ويخدم من حوله وهذا الأنموذج يبدو جليّا في المجتمعات التي تقدر الطاقات وترفع من مقامها وتفتخر بها وتدعمها حتى تصل إلى ما يلبي طموحاتها وتطلعاتها فهذه المجتمعات تؤمن بأن ما يتحقق على أيدي رجالها وأبنائها عائد بطريق مباشر أو غير مباشر للمجتمع ذاته .
ومن خلال تشجيع العاملين وإبراز جهودهم وتقديمهم كمنتجين ومبادرين ومساهمين يذكي عند جميع فئات المجتمع جذوة التنافس الشريف في ميدان العمل فيحدث السباق في الأسرة الواحدة لينتقل كالعدوى الحميدة بين الأسر وبالتالي ينتشر هذا التنافس في كل مكان مما يسهم في تقدم الأفراد والحركة العلمية والثقافية والاجتماعية .
وهذاهو الهدف الجوهري الذي تسعى له المجتمعات الذكية المواكبة لمتغيرات الزمن ولا شك أنها تدار من قِبل رجال أكْفاء متخصصين يرسمون الخطط التي تعنى بالاستثمار الحقيقي في أبنائهم للمستقبل إذ يختلف الوعي من مكان لآخر .
أما المجتمعات التي لا تهتم بهذه الأمور ، فبالتأكيد لن يكون من اهتماماتها أن يبرز هذا المبتكر أو يتألق هذا الفنان أو يبدع هذا الكاتب ..! وربما يركز قادتها على الأمور التي لا تقدم للإنسان أي جديد إذ تهتم بالأشياء الثانوية التي يكون مردودها على الفرد أكبر من المجتمع كالهوايات والألعاب الرياضية المختلفة .
إن الهمة العالية تنمي في الإنسان الطموح لأن الهمة من مقومات الطموح ولا طموح لمن لا همة له ولا نجاح لمن لا طموح له .
وفي ذلك يقول سيد الخلق (ص) :”لو تعلّقت همة أحدكم بالثريا لنالها “(1) ويربط مولانا أمير المؤمنين (ع) قياس مقدرة الرجل بهمته فيقول : ” قدر الرجل على قدر همته”
والمجتمع الناجح هو الذي يشعل فتيل هذا الطموح بين أبنائه ويحضهم على الارتقاء بأفكارهم ويشحذ هممهم نحو الإنتاجية في مختلف المجالات ويحفظ للجميع جهوده ويسعى لتطويرهم وصقل مواهبهم من خلال الاهتمام والتشجيع والتحفيز .
على عاتق المجتمع وقادته تقع مسؤولية بناء الإنسان الطموح المنتج وإذا تصدى هؤلاء لهذه المهمة ، فمن واجبهم أن يولوا أبناءهم وفتياتهم ورجالهم ونساءهم العناية والرعاية .
للتشجيع والتقدير أثر كبير في الدفع بهذا الفتى أو تلك الفتاة إلى مراتب عالية ويعظم أثره إن كان من الأقربين له ثم من أصدقائه وتزداد أهميته وأثره إذا كان من المجتمع حيث إعلانه فردًا منتجًا يُفتخر به يمنحه وسام الرفعة ويحفزه داخليًا ونفسيّا ويدفعه للمزيد .
هَبْ أن معلما وقف على أحد طلابه وهو يلقي كلمة الصباح في الإذاعة المدرسية وساعده وشد أزره وردَّ عليه الكلمات التي تعثر فيها من خلف الستار وأنقذه من الإحراج أمام زملائه فما ردّة فعل هذا الطالب ؟ بكل تأكيد سيشعر بالراحة والسعادة لأنه وجد من يحفزه ويعزز من قيمته لحظة اختباره وهذا سيمنحه الثقة والإصرار على التميز مستقبلًا .
ظاهرة التكريم لمن يستحق بعد فوات الأوان ، ظاهرة تنتشر في نطاق واسع على مستوى العالم وأقول بعد فوات الأوان وأعني على مشارف نهاية العمر وربما يأتي التكريم بعد أن يفارق هذا الرجل الدنيا ، فتسلم الدرع أو الشهادة لأبنائه !
ومن الأجدر أن نبادر بتكريم من يستحق في عنفوان شبابه وفي أوج عطائه ونحن بذلك نكسب طاقة خدمت ونرفع معنوياتها لمزيد من العطاء .
يقول النبي الأعظم (ص) : ” اعطِ الأجير أجره قبل أن يجفَّ عرقه ” وفي ذلك دعوة منه صلى الله عليه وآله وسلم بأحقية العامل في استحقاق الأجر حال الانتهاء من تكليفه ويمكن أن نعتبر هذا المتطوع بمثابة العامل الذي يعمل دون مقابل وبمبادرته بالتكريم نكون قد رفعنا من همته وأشعرناه بمكانته وقيمة ما قدم للمجتمع .
نحن بحاجة للحفاظ على ما تبقى من بذرة التطوع ، التي ربما زُرعت ونالت الرعاية منذ سنوات ومع متغيرات الزمن واختلاف الحاجات تغيرت موازين التطوع فبعد أن كنا نتسابق في هذا المجال أصبح مقتصرًا على ثلة قليلة تحمل هذا النفس .
فيجب أن نعيد الأوراق ونخطط لوضع الأسس الناجعة لغرس مفهوم التطوع في نفوس الناشئة من خلال قنواتنا المتاحة ونستعين في ذلك بالوجوه المشرقة في هذا المجال كمثال يحتذى به حتى لا نفقد هذه الثمرة .
المصادر :
(1) الشخصية الناجحة
عبداللهأحمد اليوسف ص52