من مواقف السفر الطريفة وورطاته اللطيفة أن جاءتني مهمة تستدعي السفر إلى أربع بلدان شرق آسيوية والتنقل فيها بقرى ومناطق أماكن شبه شعبية يرافقني خلالها مجموعة من الزملاء والمسئولين المختلفين من عدة دول وبلادين وقد حطت رحالنا في مدينة كلكتا الشهيرة في خليج البنغال .
وبعد اللف والدوران والبحث والتوهان كم يوم مع بعض العمالة المفتحة ( وهي العمالية الذكية أو الجيدة) والعديد من العميان (وهي التي لا تفقه الكثير من الخبرات والشهادات ولا حتى المهارات )
حينها وجدنا ضالتنا من الرجال وأنهينا مهمتنا في وقت أقل مما كان محدد وبقي على موعد الطائرة للانتقال إلى محطة جديدة يومان فقررنا قضائها سائحين إذ لم نرغب بتضييع الوقت في الانتظار فقلنا نستفيد به من زيارة مآثر المدينة وهي زيارة غير متوقعة أو مجدولة مسبقا .
وكان أول ترحالنا للمتحف الطبيعي في المدينة القديمة وقد كان المتحف عبارة عن عمارة انجليزية قديمة كبيرة بنيت منذ أيام ما كانت الهند دولة مستحلة تحت الانتداب البريطاني .
كما كان المتحف هو مقر الحكومة المحلية بالمنطقة آنذاك وقد بدت عليه الفخامة في كل زواياه وتفصيلاته وحقا هذه المباني بنيت لتبقى فبالرغم من مرور عقودا من الزمن بل أن بعضها مر عليه أكثر من قرن ونيف إلا إنها لازالت صامدة وشاهدة أمام مباني الصفيح في الخليج المزدحم أمامهما .
وعند دخولنا ساحة المتحف القصر (أن صح عليه القول) وجدنا المكان هادئا ساكنا إلا من الحراس وتجولنا داخل قاعاته وصالاته الكثيرة ولم أكن أتوقع قبل زيارته أن تكون لديهم جميع هذه التشكيلة من الحيوانات التي عاشت في بلدهم أو كانت تعيش فمن الغريب أن تلقى تمساح طوله أكثر من 4 أمتار تقريبا وله حنك كالبطة وبدون أسنان بل لا يتغذى على اللحوم ولا يعد مفترسا .
وهناك أنواع الطيور التي فقدت منذ الأربعينات من القرن الماضي بأشكال وألوان وحشرات وعناكب غاية في الجمال والاشمئزاز ، المتحف كان جامعة مصغرة في علوم الأحياء والأرض والتاريخ وبالرغم من قضائنا ما يقارب 3 ساعات داخله إلا أننا تقريبا لم نلاقي إلا عدد قليل من الزوار المحليين .
ولم يكن هناك سائح غيرنا مما جعلنا شبه مميزين ونحصل على حبوه التقدير من المدير، حتى جاء وقت الإغلاق فاعتذروا منها وخرجنا مفارقين مستغربين من هذا العبق الرزين في متحف المدينة القديم.
وكانت محطتنا الثانية في مجمع سوق الزل القديم وقد احتفى بنا صاحب المجمع بشكل خاص وعرض علينا جميع الكنوز الدفينة لدية من أنواع السجاد الفارسي والأفغاني والروسي والتركي وكان يشرح لنا الفرق في التصنيع والمواصفات التي تميز كلا منها على حدة وأيضا استخدام الخامات والدمج فيما بينها مثل الصوف والحرير وهناك نوعية اللوحة التي تمثلها السجادة ونوعية الخيوط وعدد العقد في السنتمتر المربع ! وهنا توقفت مع زملائي لنستوضح سبب غلاء السجادة بكثرة العقد في مساحة جدا صغيره وكيفية التأكد من ذلك .
ولأول مرة أعرف حينها بأن السجاد يعامل كمعاملة السندات المالية وله سعر مرتبط بالبوصة ( مساحة وليست سوق المال!) وحسب الحجم تقدر السجادة ويزيد ثمنها وللسجادة شهادة منشأ وشهادة ميلاد وشهادة ضمان وشهادة حسن سير (يعني لديها شهادات أكثر مما يحمله بعضنا!) وفي ختام الدورة المعلوماتية القيمة عن صناعة السجاد وأنواعه شكرنا مضيفنا وتسللنا من بين يديه خجلين أن لم يشتري أيا منا شيء بالرغم من جودة المعروض ورخص السعر .
ولكننا تذكرنا أنه لازال الوقت والرحلة طويلة أمامنا كي نحمل على ظهورنا سجاد نفيس وندور بين المطارات كالبياعين الجوالين ودعناه وفررنا منه مسرعين إلى الفندق استعدادا لمحطة أخرى في اليوم الثاني قبل السفر من المدينة .
في اليوم الأخير خرجنا مصبحين حيث المكتبة العامة وعند اجتيازنا شوارع المدينة سيرا ثم دخولنا ساحة الحديقة التابعة للمتحف رأينا من الأشجار ما عمرة فوق المائة عام ودائرة ظلها كبيرة جدا والمكان بالمبنى كان قصرا للحاكم أبان حكم الإمبراطورية البريطانية .
وجأت الأعاجيب داخل المكتبة إذ وجدنا من الكتب ما مر علية الزمن وأكلته دابة الأرض ونخرت أوراقة القديمة ومنها ما لم يقرأ منذ 50 عام أو أكثر حسب القوائم التي وضعت عليها ، زميلنا الأيرلندي وجد كتاب لجدة وهو شاعر قديم لم يكن معروف لديهم .
وأستغرب من الأشعار التي كانت جديدة بالنسبة له ، أن المكتبة كانت أشبة ما تكون بمستودع ضخم شبه مهمل إلا من القليل من الطلبة والمهتمين بالبحوث وكانت زيارتنا للمعرفة ولم يكن هناك أي تميز لوجودنا وقد لاحظنا البعض يخزنا بنظرات ريبة وتضايق ربما لعدم رغبتهم إطلاعنا على سوء إدارتهم واهتمامهم بالمكتبة وربما لغرض لا نعلمه.
وغادرنا مسرعين حيث حقائبنا في قاعة الفندق بالانتظار ومظيفنا واقف مع سائق الفان على نار فسلمنا عليه مودعين وركبنا إلى المطار متوجهين ولكن كان للأقدار رأيا آخر حيث نزل علينا في طريقنا للمطار المطر الموسمي ولكن بشكل غزير وشديد ذاك العام إذ أتى مبكرا عن وقته وتباطئت حركة المرور العامة في الشوارع التي هي بالأصل بطيئة .
وأصبح المارة التي تسير على أقدامها حولنا تسابق السيارات مشيا على الأقدام من بطيء مسيرها وقلوبنا ترتجف خوفا من التأخير عن موعد الإقلاع وزاد الطين بلة هو توقف السيارة الفان لسبب غير مفهوم وطلب سائقها أن ننتظر الإصلاح أو ننزل جميعا لدفها ( زقها ) كي تعمل وما كانت لنا حيله إلا الامتثال وكم كان الموقف صعب ومخجل فالسيارات تمر بجانبنا لترشح أرجلنا بالماء والمطر يزخ على رؤوسنا منهمر من السماء وثيابنا صارت ملتصقة بأجسامنا لتظهر محاسننا المستورة والسائق يجلس خلف المقود كالمهراجا ينادينا بأعلى صوته جلدي بش ، بش!
ومن كثر ما سوينا بش يمكن وصلناها المطار مبشوشة! ومرت اللحظات عصيبة جدا والناس تمر تتفرج ويمكن تضحك على حالنا لحين ما اشتغلت السيارة اللعينة ولكن بعدما صرنا طينة وركبناها ونحن نتمتم بالويل والثبور وعظائم الأمور و وصلنا المطار قبل لحظات من أغلاق باب الدخول وفتح باب المغادرة للركاب .
وبعد التوسل والاستعجال عبر الحمالين استطعنا شحن متاعنا والحصول على بطاقات الدخول ولسان حالنا يقول ما صارت يومين أجازة هذه التي طلعت علينا ، وطلعت عيونا التعب والبهذلة وقلة القيمة وحرق أعصاب مثل الطبينة وتمنينا لو نستطيع نشر ثيابنا المبلولة داخل ممر الطائرة خوفا من البرد بسبب الرطوبة بس المشكلة أنه لا يوجد لدينا غيار نستر عصاقيلنه وخوفنا من عيون اللي حوالينه .
ثم تعرف العيون ما تستحي فسكتنا مضطرين وانطمينا وأسناننا تتصافق واحنا نؤمل نفسنا بالدفء حين الوصول إلى محطتنا التالية مدينة مدراس حيث أقصى الجنوب في الهند وأحر فلفل وأحر جو أيضا وحيث البشرة الداكنة ومعامل الفحم والمانجو العجيب وحتى نصل سكتنا مضطرين وانطلقنا مسافرين.