
تعتبر المعرفة والثّقافة أشهر عاملين يقاس بهما مستوى الوعي عند أفراد المجتمع وبالتالي مدى تماسك هذا المجتمع وقوته أو ضعفه وانهياره أمام الاختراقات الفكريّة أو نشر الترّهات وتناقل الخرافات والكلام الخاوي من المعرفة والقيمة العلميّة.
فعندما يقوم أحدهم (مثلا) في مقطع مسجّل قصير بتفسير القرآن الكريم (بمزاجه)، ولا بأس بذلك فكأنّه يفكر بصوت عالٍ وهذا هو مستواه من التفكير ومبلغه من العلم.
لكنما تبدأ ملامح البؤس تتضح عندما يتداول بسطاء النّاس هذا المقطع الصّوتي في مجموعات التواصل الاجتماعي على أنّه فتح كبير ونصر أكبر لهذا (المفكر المبدع) المحلي الذي لم يستورد أفكاره من مراكز العلم الكبرى في هذا التخصّص سواءاً في النّجف الأشرف أو قم المقدّسة.
كم هي كارثة كاشفة عن مستوى مجتمعنا (المحلي) الفكري والثّقافي، فيكفي أن يخرج شخص بطريقة منمّقة تجميليّة واسلوب تشويقي مثير، ومهما تضاربت المعلومات في هذا المقطع أو تخبطت في بعضها أو تداخلت وتشابكت ببعضها كخيوط الغزل التي عبث بها الأطفال المشاكسون، يُسارع الكثير من أفراد المجتمع البسطاء إلى حدّ السّذاجة بتناقل هذه المقاطع واضافة علامات الاعجاب أو التشجيع على نشرها لاظهار مستوى هذا (المفكر المحلي) الذي يقارن نفسه بالدّكتور شحرور أو الدّكتور كيالي أو غيرهما (وبغض النّظر عن تحفظنا على بعض نتاجهم الفكري) إلا أن هؤلاء أخذوا باسباب التعلم وعملوا بآليّات الفكر وليسوا متطفّلين عليه كما يحلو للبعض أن يلهو احيانا معتقداً أنّه أصبح مفكّراً لا يشق له غبار.
هل هناك انفعال بوصف هذا التصرّف من أفراد المجتمع بالبسطاء والسّذاجة وبوصف المجتمع المكوّن من هذه الغالبيّة بالمجتمع البائس؟
أليس هؤلاء الأفراد وبمثل هذا التصرّف هم من أثار عاصفة الاستهلال؟ مسببين هذا الإرباك وهذا الجدل الذي لم تهدأ عاصفته الهوجاء حتى بعد انتهاء زهوة العيد واشتعال حرارة شهر مايو التي كحّلتها الرّياح المغبرة المعتادة في هذا الشّهر القائض من السّنة.
هل يحق لمثلي أن يتسائل: لماذا لم يكتفِ مَن تلقى هذا المقطع بهزّ رأسه مذهولاً من مستوى السّذاجة والتخبط وارتباك المفاهيم واضطراب المعاني التي ساقها هذا (المفكر المحلي) وربما نبتسم قليلاً على جرأة هذا المفكر على نشر هذا (اللا شيء) على أفضل تقدير له؟
أليس الأولى أن نقوم مباشرة بحذف هذا المقطع المسيء للذّوق وللغة العربيّة فور وصوله لنا؟ ونضع نهايته بدلاً أن نكون حلقة في سلسة نشر هذه الإساءات المضحكة والمثيرة للشّفقة.
هكذا ومع الأسف يستغل أصحاب المشاريع الخاصّة بساطة النّاس لإضرام الفتن أحياناً كما حصل بموضوع الإستهلال الذي تحوّل للاساءة للمراجع ووكلائهم وللمؤسّسة الدّينية، ولتمرير أفكارهم السّاذجة والسّطحيّة أحياناً أخرى لزيادة الشّهرة وعدد المشاهدات ولتحقيق خطوة أخرى في مشروعهم الخاص.
يبتدأ صاحبنا (المفكر المحلي) نظريّته الفكريّة الجديدة باثبات امكانيّة أن يَعلم الانسان البسيط أمراً غاب عن العالم المتخصّص، ويؤكد ذلك بتعلم النّبي موسى “عليه السلام” وهو من أنبياء أولي العزم من (عبدٍ بسيط) أسمه الخضر.
ثم يبني (المفكر المحلي) على ذلك ويبدي رأيه (هو) في حدّ السّرقة، مستفيداً من فهمه لكلمات الآية الشريفة، وبذلك لا نحتاج لعلماء ولا لمراجع دين فالأمر سهل جداً وبمنتهى البساطة ولا يحتاج أبداً لإضاعة هذا السّنوات العديدة من العمر في الحوزات العلميّة وفي الدّراسة والتعلم.
هل هناك سذاجة أكبر من أن يقارن هذ المفكر المحلي (العلم اللدّني) الذي لدى الخضر “عليه السلام”: (ءَاتَيْنَٰهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَٰهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا)، ببعض مشاغباته السّاذجة في فهم بعض الكلمات العربيّة الواردة في آية حدّ السّرقة؟
لكن قبل هذا كلّه، أليس تداول هذا المقطع رغم أن صاحبه لا يجيد حتى الكلام باللغة العربية، فتراه يرفع منصوباً و ينصب مجروراً ويكسر مجزوماً، أليس تداول هذا المقطع والإشادة به دليلاً على (كم هو بائسٌ مجتمعنا هذا)؟.
1 ping