
قلبت كورونا المعايير بالعالم، وكشفت بواطن الأمور، المتعلقة بالانسان دينياً وطبياً وغيره، إلا أن الأهم باعتقادي الجانب الديني. لأن الإنسان بفطرته يلجأ لله تعالى، في المصائب والنوائب. بينما كورونا بسببها أغلقت دُور العبادة بمختلف تعددياتها. وفي ذات الوقت عززت تعميق دور العيادة، وطفح للسطح تداعيات ومفارقات كورونية فيما يتعلق بالعبادة والعيادة كما تبينها المحاور:
1- العيادة والعبادة
كثفت الحكومات جهودها لإنشاء وتجهيز العيادات والمستشفيات، وأضحت أخبارها تتصدر الأنباء والصحف والمجلات وشبكات التواصل الاجتماعي. وتناشد دعوات ارشادية وتوعوية، للذهاب للعيادات والمستشفيات.
بينما يتفق العالم لأول مرة بإغلاق جميع دُور العبادة بمختلف الديانات. والأدهى من ذلك في الوقت الذي يشجع فيه الناس للذهاب للعيادات للكشف والعلاج. يجهر المؤذن قائلا: “..صلوا في رحالكم -بيوتكم- يرحمكم الله” وهذا مؤلم حتى أن بعضهم ينطقها بصدى بكائه.
2- الأطباء وعلماء الدين
سُلطت الأضواء على علماء الطب والصيادلة والباحثين بالمختبرات، وتصدروا الصف الأول في الأخبار والاهتمام واتخاذ القرارات المصيرية فيما يتعلق بحياة البشرية.
بالمقابل قامت الحكومات بأشد الإجراءات لإحكام إغلاق المساجد والكنيس والكنائس وغيرها، مما ترتب عليه بقاء أئمة المساجد والحاخامات والقساوسة وغيرهم في بيوتهم، الأمر الذي أدى إلى انحسارهم إعلامياً، وابتعادهم عن المشهد الكوروني.
3- إنتشار الإبر وانحسار المنبر
فتحت العيادات أبوابها، وبدأت المصانع في تصنيع الإبر الطبية، متزامناً مع إنتاج الأدوية المساعدة للعلاج، وأشتد الطلب على الإبر لتخفيف آلام المصابين.
وبينما تتسيد الإبر الساحة، تجد انحساراً للمنبر، في الجائحة. فقد أضحى (تحقين الإبر) أهم من (تلقين المنبر).
4- سائل التعقيم وماء البركة
تعقيم الأيدي بالمعقمات للوقاية باستمرار، أدى إلى تهافت الناس لشرائها. وبدأت المصانع بالعمل ليلاً ونهاراً لسد الاحتياجات من سائل التعقيم إزاء الجائحة.
ومن جانب آخر غاب عن الأذهان والإعلام (ماء البَركة) وهو ماء يقرأ عليه علماء الدين ويشرب لدفع البلاء، وهو معتقد متجذر لدى أغلب الديانات. والنتيجة (المعقم) سحب البساط من (ماء البَركة) لأن الجميع يحتاجه بما فيهم القارىء على الماء.
5- الفتوى الطبية والدينية
يترقب الناس والحكومات فتاوي الأطباء وعلماء المختبرات والفيروسات في كل صغيرة وكبيرة فيما يتعلق بالجائحة، ويأخذون في الاعتبار معنى كل حرف.
وبسبب التداعيات الكورونية، وبحكم بقاء علماء الدين في منازلهم،تأثر توهج الفتوى الدينية واضمحل عنفوانها، حتى أن بعض الدول أخذت بالرؤية الفلكية لشهر رمضان، مثل المملكة العربية السعودية، من باب الاحتراز، كما أعلن رسمياً.
6- الاختلافات الطبية والدينية
اختلف العلماء في طرق التعاطي مع كورونا سواء بسب طرق الوقاية، أم إجراءات الحظر أم العلاج. وكل المعنيين يبدون ما يرونه من وجهة نظرهم. والعجيب في الأمر أنه مع اختلاف وجهات النظر وتعدد الآراء، لم تسجل احترابات وتصادمات طبية. أو نشاهد في مقابلات وتصريحات، من يقلل من طريقة هذا الطبيب أو ذاك. وجدير ذكره أن الاختلافات في التعاطي للقضاء على كورونا، ينظر إليها باعتبارها تراكم خبرة.
لكن ومع شديد الأسف في الاختلافات الدينية، تنضح الخطب والمقابلات والمقالات والتغريدات وغيرها، بالتحريض والاستعداء والدعاء ممتزجاً بالبكاء على المختلف معه، دينياً ومذهبياً ومرجعياً واجتماعياً.
7- الخطاب الطبي والديني
وضعت كورونا الأطباء في قلب الحدث إعلامياً. مما استدعى الأطباء تسلحهم بالفصاحة، وضجت القنوات الفضائية وشبكات التواصل الاجتماعية بالخطاب الطبي، من باب التعريف وطرق الوقاية والتوعية. كل ذلك يحدث بأسلوب علمي ممنهج وسلس ومحبب للنفس ومدعما بالصور والأفلام التثقيفية. لأجل استقطاب الناس واستمالتهم.
وبعضهم في خطابه الديني يبتعد عن المنهجية العلمية، والإنسانية. ويتحدث بأسلوب التسقيط والتفسيق والتخوين والتخريج من الملة. متناسياً التوجيه الإلهي: ﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾.
8- أدبيات كورونا
فُرضت أخلاقيات وسلوكيات ومصطلحات على الناس في العالم، تتماهى وأدبيات كورونا. من ذلك الابتعاد عن المصافحة بالأيدي والاكتفاء بوجاهة (السلام نظر).
وأيضاً من تعليمات الأطباء التباعد وعدم الزيارات ولا سيما مع الأقارب، وخطورة تبادل المأكولات حتى الرمضانية. وإلغاء تشييع الجنائز، وواجب العزاء وزيارة المرضى وغير ذلك.
علماً أن الخطب الدينية والتعليمات تنص على صلة الرحم وزيارة الأقارب والمرضى، لكن مع كورونا تبدلت المسائل، وأصبحت فتاوي الأطباء مقدمة ومحط اهتمام.
9- مفارقة طبية دينية
يؤكد الأطباء على احترازات مشددة بالخصوص (التعقيم) والابتعاد عن الأفراد بمسافات، وإلغاء التجمعات وغيره. كل ذلك لأجل الابتعاد عن فيروس هضيم لا يمكن رؤيته بالعين المجردة.
وعلماء الدين باختلافاتهم يشددون على (الطهارة) ويحثون أتباعهم بالتقرب والتماسك فيما بينهم. كل ذلك بهدف التقرب إلى الله العظيم، الذي ﴿لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ..﴾. باختصار الأطباء هدفهم قطع الصلة والبعد عن (فيروس هضيم) لا يمكن رؤيته. وعلماء الدين هدفهم توثيق الصلة والتقرب إلى (خالق عظيم) لا يمكن رؤيته.
10- مفهوم العمل طبياً ودينياً
ظهرت الإنسانية بأبهى إشراقاتها بتعاضد علماء الطب والصيادلة والأبحاث المخبرية، في عملهم بأجواء مفعمة بالحب والتضحية والتعاون. بعيداً عن التمايزات الدينية. وكل هؤلاء العلماء باختلافاتهم وأطيافهم هدفهم الأسمى تخليص الإنسانية من كورونا.
ولو تتبعنا عمل علماء الدين في العالم تجدهم ﴿كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ..﴾. بل تجد كل مذهب وكل جماعة من الجماعات تعمل بذاتية، ونرجسية استعلائية، ولو جعل علماء الدين تجذير المحبة، والقضاء على (الكراهية) هدفهم الأوحد، وتعاونوا بجميع دياناتهم ومذاهبهم وشرائحهم فيما بينهم لأجل هذا الهدف النبيل، لكان النجاح حليفهم والأقرب لمساعيهم، وساد الحب والسلام العالم.
11- لقاح لا احتقان
يواصل العلماء والباحثون جهودهم لاكتشاف (لقاح) للقضاء على كورونا. وجميع وسائل التواصل والإعلام وشبكات التواصل الاجتماعية، تتناقل الأخبار الطبية والمخبرية المتعلقة بإنتاج (لقاح) لكورونا، بالمقام الأول.
وفي هذه المعمعة وبسبب إغلاق دُور العبادات بالعالم، انقطع الخطاب الديني -وهو أمر محزن- لكن برؤية إيجابية (الخبر فيما وقع) فكلنا نعلم أن بعض الخطب الدينية، تصاغ بحروف احترابية احترافية، وبمصطلحات مشحونة بالكراهية، تولد شحناء و (احتقان) بينما العالم يتطلع إلى لقاح لا احتقان.
12- الحجر وقاية للبشر
يحجز الأطباء المصابين لأنهم يشكلون خطراً صحياً على الأصحاء. ويمتد هذا الإجراء ليشمل الأحياء والمدن. كل ذلك يتم بتعاضد جهود الأطباء والجهات الأمنية.
وإذا أخذ العالم بهذه الإستراتيجية (الحجر) إزاء من يكون خطابه عنصرياً وطائفياً وتحريضياً. بحيث يتم حجره وحجبه عن الناس، حتى لا ينتقل خطابه وتلوثه للآخرين ويعيش الناس بحب وسلام ووئام.
الفكرة:
يحتاج الإنسان لضمان بقائه مستقراً نفسياً وجسدياً، إلى علماء دين وطب، على درجة رفيعة خلقياً، ويشهد لهم بالإنسانية، حتى لا يكون الحال كما يقول بن تيمية: «أكثر ما يفسد الدنيا نصف فقيه، ونصف طبيب، ونصف نحوي، فهذا يُفسد الأديان، وهذا يفسد الأبدان، وهذا يُفسد اللسان».
ومن المؤكد أن هذه الجائحة ستغير قناعات الكثير من علماء الدين، فكلهم شاهدوا بأم أعينهم، أن خيار البشرية، البقاء أصحاء، ويتحقق ذلك بالتعاون من الباب الإنساني. فعلاقة الإنسان بخالقه يستطيع تحقيقها بوجاهة (خليك بالبيت). نسأل الله تعالى الأمن والأمان للبشرية، ويرجع علماء الدين الأبرار إلى دورهم الإنساني.