
بعد إنتهاء إثنى عشرة ساعة، متواصلة، في مناوبتها المسائية، تشعر الدكتورة باسمة بالإعياء الشديد، وتصلب في المفاصل، وإرهاق في جسدها الذي بالكاد يصمد على الوقوف، و تشعر بثقل المسؤولية التي تحملها على كاهلها، والحمل الثقيل التي ترتديه من ملابس خاصة، لتحمي نفسها من إنتقال العدوى.
تتقدم لغرفة الأطباء لتبديل ملابسها، لكي تعود إلى عائلتها الصغيرة، التي تتبع الإجراءات الإحترازية كما الجميع، في هذا الوقت العصيب، تتذكر إبنتها الصغيرة العنود، التي نسيت أن تخابرها اليوم، لتعرف ماذا فعلت مع أبيها لوحدهم؟ ، تطلق تنهيده صغيره وإبتسامة مثل قوس القمر، تخرج من المستشفى، متوجهة إلى سيارتها، تركب بصعوبة، تدور المفتاح لتشغيلها، يتجه نظرها إلى هاتفها النقال، اتصالات كثيرة، رسائل عديدة، تطلق تنهيدة أخرى طويلة بصوت خفيف، وكأنها تترجم حال المجتمع وخوفهم من هذا الوباء، الجميع يريد أن يطمئن على ذويه، أقاربه، أصدقاءه وجيرانه، تلقي الهاتف على الكرسي الجانبي، لتحرك السيارة.
تمضي ببطء للشارع العام، لا تعرف إلى أين ستذهب، لا يتوقف تفكيرها عن حالات المرضى الحرجة، وعن وعي المجتمع الذي أنقسم الى عدة أقسام منهم الواعي ومنهم المستهتر ومنهم الناصح، وعن العالم كيف يتصرف مع هذا الوباء، المتفشي بكل بقاع الأرض، لا ينفك تفكيرها عن ابنتها، وكيف سترضيها ، وهي لن تراها لمدة طويلة، عيناها التي تطلق رسائل الرغبة في الاغلاق، قالتها: الحمدلله على كل حال، خرجت من شفتيها بصوت مخنوق، وهي تقف عند أول إشارة مرور.
مازالت تفكر، فالطرق يسكنها الهدوء، والمحلات المقفلة يخيم عليها السكينة، والفندق الذي تقطن فيه مع زميلاتها بعيد قليلا، صوت إبنتها يتردد مثل الصدى، وهي تحمل دميتها، دائماً ما تستقبلها عند الباب، لتخبرها بأن بطاريات الدمية نفذت، تسقط دمعة من عينيها.
صوت بوق السيارة التي خلفها، أرعبها وجعل قلبها يخفق بشدة، وكأنه يشير إلى أن الإشارة الضوئية فتحت، وتحول لونها للأخضر، إقتربت منها السيارة متفادية سيارتها، يخرج الرجل يده من نافذة سيارته ليخبرها بأن تتوقف على جانب الطريق، وازدادت رعباً، عندما نزل الرجل ليقترب من نافذتها، طرق عليها مستأذناً بأن تفتح النافذة، وعندما رأت الزي الرسمي الذي يرتديه، عرفت أنه ضابط شرطة، اطمئنت لتفتحها، فهو شريك النضال في هذا الوقت.
السلام عليكم سيدتي، لو سمحتي أظهري بطاقة هويتك وبطاقة العمل؟!.. ، أعطته مايريد، وعندما تأكد من هويتها وعرف بأنها طبيبة محاربة، وجندي مناضل، في هذا الوضع المتأزم، ابتسم، ليتصل على مدير إدارة الشرطة المناوب بنفسه، وأخبره بأنه أوقف سيارة سيدة، في وقت الحظر، للتأكد من هويتها، وأتضح بأنها طبيبة، أنهت فترة مناوبتها، وهي متجهة إلى منزلها.
فكان رد مدير الشرطة على الضابط، الذي يدل على الوعي والتفهم والاحساس بالمسؤولية، أن يبلغها بهذه الرسالة، فوضع الضابط هاتفه على السماعة الخارجية لتسمع الطبيبة رسالته، فقال ( ابلغها تحياتنا، وتقديرنا لجهودهم الجبارة، وتأكدي سيدتي بأن حكومتنا الرشيدة وشعبها في مملكتنا الحبيبة، فخورين بكم، أنت وزملاؤك بالقطاع الصحي، أنتم جنود هذا الزمن، ونسأل الله لكم التوفيق، ويحمي مملكتنا شعباً وحكومة من شر هذا الوباء حتى تنتهي هذة الفترة العصيبة.
لم تستطع أن تتمالك نفسها الدكتورة باسمة، غطت وجهها بكلتا يديها لتصرخ، والدموع تنهمر من بين أصابعها، فقالت: ثق تماماً بإذن الله لن نخيب آمالكم بنا، وسنسعى جاهدين ليزول هذا المرض، ونحتفل جميعنا بعودة البلاد لوضعها الطبيعي، ونعود لعوائلنا، فشكراً لكم على ما تتحملوه، وفترة قصيرة بإذن الله وسنرتاح من هذا الكابوس.
2 pings