كثيرة هي المواقف التي تحدث في حياتنا ولكن ما يدفعني للكتابة هي تلك المواقف التي تظل راسخة في عقلي أينما ذهبت وكيفما تغير بي الحال.. أتذكرها عند استيقاظي، وقبل منامي وحتى في الجامعةِ بين محاضراتي!
هل تراني أبالغ؟ دعني أُحدثك .. كنت ليلة البارحة في عرسِ ورأيت أحد الأصدقاء القدامى والذي حدث بيننا ما أدى إلى تغيّر الحال وما جعلني أتعجب هو أنني لما قابلته، ووقعت عيني على عينه في العرسِ لم يبادرني ببسمة، ولا حتى بالسلام! فعجباً! كيف للصداقات أن تصل إلى نقطةٍ كهذه!!
وفي الوقت ذاته طرأ على فكري وذاكرتي أن أحدهم اختلف مع صديق له ، فلما تفرقا لم يجمع بينهما إلا موت أحد الأبوين! لماذا لا نتغير إلا عندما تحدث تلك الأحداث الجليلة في حياتنا؟! لماذا لا نتعظ من تجارب الآخرين وخبراتهم؟! …. هب أننا قد اختلفنا فيما لابد من التفرق بعده، ألا نستطيع أن نحفظ الود ؟
لا يوجد بين البشر من لم يتخاصم مع الآخر ومع أن الخصام لا يعني الكره إلا أنه من الممكن أن يتحول إلى بغض وكراهية إذا فجر أحد الطرفين في الخصومة! والإنسان في خصامه لوّام … وخاصة في خصام من كانوا أحبة وكان لهم في الفؤاد ودٌّ ووئام! فوجع الخصومة يلوك القلب.
حُرّض أبو جهل على اقتحام بيت الرسول ﷺ وقتله في فراشه فرفض وقال: “والله لا تحكي العرب أنّي روّعت نساء محمد”، نعم أنه أبو جهل هكذا كان أدب خصومته في الجاهلية! فماذا عنّا؟ و من أخلاق الكبار في أدب الخصومة ما نقل عن يوسف عليه الصلاة والسلام ﴿مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي﴾ جعل الشيطان سبباً للخلاف، بل إضافة إلى ذلك فقد بدأ بنفسه أن الشيطان نزغ به أولاً ولم يقل بين أخوتي وبيني، يا الله ما أروع هذه النفوس. وفي موضع آخر يقول الله تعالى على لسان أحد الخصمين لما قدموا للتحاكم: “إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة.” فرغم الخصومة وصفه بـ “أخي “فالخلاف لا يقلب الحب والمودة إلى بغضٍ وجفاء” فما أجملها من أخلاق وما أروعه من أدب للخلاف.
وهذا عمر الفاروق يؤصل لنا أدب الخصومة كما في الأدب المفرد بقوله: “لا يكن حبك كلفا، ولا بغضك تلفا، إذا أحببت كلفت كلف الصبي، وإذا أبغضت أحببت لصاحبك التلف”. وما أجمل قول الشاعر حين يقول: إنَّ الكرامَ وإنْ تغيرَ ودهُم.. ستروا القبيحَ وأظهَروا الإحسانا. وكم يروق لي كلام أحد الكتاب حين قال: ” كم أشعر بالسعادة والرضا حين أتذكر أنني تجرعت بعض المرارات من أخوة أعزة، ربما لا يروق لهم هذا الوصف، ولكنني أقولها صادقاً؛ لأنني أعلم أن ما بيني وبينهم من المشتركات يفوق بكثير نقاط الاختلاف”..
وفي الختام علينا أن نقرُّ بأنّ “قبول العفو لا يستلزم رجوع العلاقة كما كانت” ولكنه أيضاً يُثبت معنىً جميلاً للوفاء.. فدعونا نعتذر ممن أخطاءنا بحقهم.. دعونا نكون دعاة ألفة ومحبة.. دعونا نلقى الله ولا يكن في قلبنا غلا على أحد و“بسنا هواش”.