
خذ نفساً عميقاً وقل الحياة نعم الحياة.. الحيَاة مَفهومٌ وَاسع، وقَديماً قَال النفري: «كُلَّما اتّسعت الرّؤية ضَاقت العِبَارَة» حياة المسلم أكبر من أن تكون الحياة الدنيا، بل حياته تمتد إلى أكبر من ذلك لتحوي الحياة في الجنة، وهذا عكس ما ينطبق على الملحد والكافر في أنهم يغنون عن الحياة الواحدة فقط. لكن على المسلم أن يفهم هذه الحياة وأن يجعلها مزرعته لحياته الأخرى.
فمن هو المؤمن؟ هو الذي يصدق كلام الله، من هو المؤمن؟ الذي يأتي تصوره عن الحياة الدنيا موافقاً لما في القرآن الكريم، من هو المؤمن؟ من يرى الدنيا مطية للآخرة، من هو المؤمن؟ من يرى الدنيا دار عمل ودار تكليف، ويرى الآخرة دار تشريف. قال صاحب لسان العرب: والحياة اسم يقع على كل شيء حيّ، وسمّى اللّه عز وجل الآخرة حيواناً لأنها الحياة الحقيقة، هي الحياة التي لا موت فيها، وهي الحياة التي لا شقاء فيها، وهي الحياة التي لا متاعب فيها، وكل متاعب الدنيا تنتهي عند الموت.
لفظ الحياة في كتاب الله عز وجل يصعب حصرها في هذه المقالة ولكن نذكر منها:﴿ وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ ﴾ وهنا وردت بتصور كفري، وأما التصوّر الإيماني الحقيقي للحياة، عليه تُبنى حياةٌ ويُنتَج ويُصاغ إنسانٌ، لا يُؤثِر العاجلة على الآجلة، بل يؤثر الآجلة على العاجلة، على هذا التصور يصاغ إنسان يريد بالدنيا الآخرة: ﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الَّدارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ﴾، يقول بعض العلماء: إنه من صار إلى الآخرة لم يمت، ودام حيًّا فيها لا يموت، فمن أدخل الجنة عاش فيها حياة طيبة، ومن أدخل الجنة فقد فاز، وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور، ومن أدخل النار فإنه كما قال الله عز وجل:﴿ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا ﴾.
إن هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء، ومنزل ترح لا منزل فرح، فمن عرفها لم يفرح لرخاء، ولم يحزن لشقاء، قد جعلها الله دار بلوى، وجعل الآخرة دار عقبى، فجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سبباً، وجعل عطاء الآخرة من بلوى الدنيا عوضاً، فيأخذ ليعطي، ويبتلي ليجزي، وبما تقدم يتضح لنا موقف القرآن من الحياة الدنيا، موقف يجمع بين متطلبات الدنيا ومتطلبات الآخرة، ويلحظ الجانب المادي للإنسان والجانب الروحي، ويوائم بين مقتضى العقل وحاجة العاطفة، موقف لا يقدم الدنيا بإطلاق ويُنكر أمر الآخرة، ولا يقدم الآخرة بإطلاق ويلعن الدنيا وما فيها من طيبات وخيرات، بل يأخذ من هذه لتلك، ويجعل الدنيا وسيلة للآخرة، ويجعل الآخرة عاقبة لأعمال الدنيا.
“ما الدنيا في الآخرة إلا كما يدخل أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بما ترجع” ولا أبلغ من قوله صلى الله عليه وسلم.