
يرى الروائي والقاص السيد حسين العلي (أبو تركي) أنه كان مشروع رجل دين، قد اعتنى به والده من أجل ذلك، وهُيئت له سبل معيشته في النجف الأشرف من المأوى والمأكل وحتى اللباس عن طريق عمه المرحوم السيد أحمد الطاهر –رحمه الله -على أن يهاجر إلى عاصمة الحوزات العلمية بعدما يتم ويتقن مقدمات الدروس الدينية عند الشيخ صالح السلطان –رحمه الله-، إلا أن السفر لم يتم بل تغير وتبدل الحال من ارتداء غترة منسدلة على الأكتاف وبشت يتأبطه أثناء المشي إلى العمل المهني والقراءة الحرة، فماذا حدث؟
1–السؤال حول المعرفة أثار جدل وفضول الإنسان بل تضعه الأسئلة في دوامة، وتجعله نشازاً في مجتمعه وبين أصدقائه، والسيد حسين ولد ومعه السؤال، عن كل ما يحيط من حوله، كانت الحياة أمامه تشكل سؤالاً كبيراً، في الاجتماع والاقتصاد، والدين… ومع أنه من أسرة علمية ومثقفة، وكانت سبل المعرفة متاحة لوجود الكتاب في منزله؛ لكنها كانت بنكهة ولون واحد فقط وهو الدين، وقد أتخم أبو تركي من كثرة القراءة في هذا المجال، وحتى الحوزة لم تغير لون ولا طعم كتبها وبالتالي لم تضفي شيئاً جوهرياً عليه.
وعادة ما يحدث ضجة وترتفع الأصوات النكرة في المحيط الذي تفقد فيه الإجابة التي تزيل إرهاق فضول المعرفة، فيجهض السؤال قبل أن يكتمل نموه ويصاب السائل بآثار نفسية سلبية على شخصيته وتحصيله، ويقبل بذلك، بعدما يسلم أمره إلى الله، والقليل، وللأسف الشديد ينفر بحثاً عن الجواب الشافي. مع إن السؤال حق مشروع في ظل وجود عدد من التيارات الفكرية في ذاك الزمن وداخل مجتمعه المنغلق على نفسه، وكان السيد حسين من ضمن الشباب المتلقف لأفكار هذه الأحزاب، وهو بحاجة إلى موازنة في التركيبة الفكرية الثقافية لديه فيحدوه السؤال، فكانت إجابته الطرد والإبعاد عن رحاب الحوزة، حتّى لا يؤثر سلباً على باقي زملائه في الدرس، فللمشيئة الإلهية رأي آخر في هذا الصبي.
فتوقفت مسيرته العلمية الدينية بعدما أمضى ست سنوات يصول ويجول في وسطها، ويلعب ويجادل مع أقرانه من الأطفال، ومع هذا لم يتوقف لديه السؤال، ولا يزال يقدح لديه سؤال بعد سؤال. فيمم وجهه للعمل الحرفي ومن ثم الحصول على الكتاب.
3-الكتابة في أي مجال سواء كانت بسيطة أم معقدة هي مرهقة بحد ذاتها، فهي عالم وسيط بين الواقع والخيال، بين المثالية والجنون، بين ما يتخالج في الفكر والواقع بنوره وظلامه الدامس، ومع كل الصعوبات وقسوة اللحظة التي ينتظر فيها معظم الكتاب هبوط الوحي أو صرعة جنون الكتابة لنثر أفكارهم ومشاريعهم الكتابية على أوراقهم يتلقى السيد حسين العلي الصفعات الموجعة على ظهره من والده–رحمه الله- إثر كتاب كتبه (رسالة خطية) بناء على طلب فتاة الجيران لإرساله إلى أسرتها في كربلاء أثناء زيارتهم للعتبات المقدسة. فما أن فُض ذاك المظروف وقُرئَ محتواه وفهم مضمونه بُث خبره وانتشر محتواه بين الزائرين من حي (العتبان) بمدينة المبرز فعاد معظم الزوار إلى البلد للاطمئنان على أسرهم، نتيجة مغالطات في كتاباته!! فلم يوفق في كتابة النص كما أريد له مما سبب اللَّغط والحرج لأسر الحي، فشكوه إلى والده، فدفع ضريبة كتابه هذا بملازمة فراشه مدة أسبوع يتلوى من آلام الضرب الذي تلقاه جسده النحيل. فأصبح لديه هاجس الخوف من لمس القلم لسنوات طوال فعكف على القراءة دون كلل أو ملل.
4 – تعدد المواهب في الشخصية دلالة على الفطنة والذكاء فيه، وإذا كشفت هذه المواهب من الطفولة وتم الاعتناء بها، لا شك أنها ستُؤتي أُكلها، وأبو تركي رسام صاحب ريشة بروتريه في بداياته، أثناء احتضان الحوزة له، فقد كان يرسم كل ما يشاهده ويقع في عينه موقع الاهتمام، ومن ذكرياته أنه كان يرسم صور الشبيه المنسوبة إلى أهل البيت عليهم السلام أيام عاشوراء ويبيعها على أطفال الحارة بقرشين وبعد جمع المبلغ يشتري مجلات من المكتبات.
واستمر كرسام هاوٍ لمدة عشرين سنة، شارك خلال هذه الفترة في خمسين معرضاً على مستوى الدول العربية، ونال شهادات شكر وتقدير وجوائز قيمة على رسوماته، وهو من ضمن مجموعة أصدقاء من الرسامين مثل: عبدالحميد البقشي، والأستاذ/ توفيق الحميدي، والأستاذ/ أحمد عبدالنبي، وأحمد العمران، وأحمد إلياس ممن أسسوا جمعية الثقافة والفنون عام 1970م، ولا يزال يحتفظ ببطاقة عضوية الجمعية. ولظروف لا نعلمها وإن ادّعى ضعف البصر من الأسباب التي أوقفته عن الرسم عام 2004م. وينسب أبو تركي نجاحه في الرسم للقراءة فقد جعلت رسمه مختلفاً عن الآخر بشهادة النقاد المتخصصين.
5–القراءة حياة عند السيد حسين، فربما جملة واحدة في كتاب تغير شخصه وتثيره، فمع المتعة التي يشعر بها أثناء القراءة، جعلته يحب الدُّنيا، فهي تنقله من عالم إلى آخر وتقرب له البعيد، وتكشف له أسرار ما كان بالغها إلا بالمطالعة، فافترش الكتاب الديني في منزله منذ نعومة أظفاره بعد عودته إلى منزله من الحوزة ولم يفارقه، وتوسد حروف كتب الثقافة العامة والمجلات بأنواعها في منزل عم والدته، من أسرة المؤمن، إذ يذهب له من أجل الاطلاع على ما وصل له من كتب ومجلات، فهو من مثقفي البلد.
وتفاعل السيد مع شخصيات الكتاب، وبفكرهم وعقولهم، بل تقمص شخصيات بعض المؤلفين؛ لشدة تأثره بهم، فهو لا يزال يتذكر أول رواية قرأها عام 1970م لـ ألكسندر دوما، بعنوان: (الكونت دي مونت كريستو)، عندما وجدها مرمية بقرب حائط مسجد في مدينة بقيق أثناء تواجده للعمل بعد خروجه من الحوزة، وقد أدهشه حجمها وفخامة محتواها.
وقد حاول جاهداً أن يكسر الخوف الداخلي الذي يسكنه طوال مسيرته في البحث عن المعرفة من نتائج الاطلاع على ثقافة الآخرين؛ ليتحرر من قيوده، ولينجز نصاً مميزاً، ومع ذلك كتب القصة بلونه وأسلوبه الذي عرف به في قصصه والتي نشر منها حتى الآن ستين قصة، من أصل أكثر من 400 قصه، في (الآن) الصادر في 2008م، وصدر له عام 2011م (سفر المرايا)، و(أخاف من مريم) 2016م، وأخيراً في 2017م (العاري).
6–السؤال يتمخض عنه مشروع بحثي، وهو المحرك الحقيقي لإثارة دفائن الفكر، ودافع للقراءة ومن ثم الاستنتاج، وإلا ستضمحل الكتابة من صاحبها وإن كتب فلا قيمة لما سطّرهُ، ويرى أبو تركي القلم الذي لا يحركه سؤال لا يستحق الاهتمام به، فلا مانع أن يتوقف عن الكتابة ستة أشهر وأكثر من ذلك مقابل أن يخطر على فكره سؤال يستحق جوابه العناء وغوص غور المعاجم، وبالتالي يولد ثورة لديه للحصول على جواب يشفي نهمه؛ ليصيغه في قالب نص قصصي.
وقد وفق بطبع كتاب (أصوات قصصية أحسائية) 2012م، ترجم فيه لأثنين وستين قاص أحسائي في 571 صفحة وبهذا المشروع أرخ لمجموعةٍ من كتاب القصة في المحافظة وكان مشروعاً بكراً محفوفاً بالصعوبات؛ وفق فيه لأنه لا يعرف للمستحيل طريقا.
وختاماً: يرى العلي إن القيمة العليا الحقيقية لجميع الأعمال، هو الإنسان، والمحافظة على كرامته وقيمته كإنسان خلقه الله كما هو، والعقل يراه نسبياً، فهو لا يبحث عن حقائق كلية في قصصه كما نتصور، بل يتساءل عن الضمير، وإن أي عمل أدبي لم يضع الإنسان نصب عينيه لا قيمة له، ومحتواه لا يستحق القراءة.
وهذا نص من”بائعة القوارير” كشاهد على ما يكتنزه من حقيقة نحو الإنسان وكرامته: (وضع القلم وبدأ يفكر كيف يكون كاتباً قصصياً؛ ليعبر عما يعيشه، وما يراه من حزن يتملك القلوب، كيف يكتب عما يراه في عيون الأطفال الحفاة.
كيف يعبر بصدق وشفافية عما يجول في رؤوس فتيات في سن البلوغ؟وكيف يقول لكل الدنيا أن قريتهم قرية من الصفيح، ليس فيها مجاري ولا مياه للشرب، بينما العاصمة تتراقص كل ليلة بألوان النيون لما تملكه من وسائل الراحة والنعيم..فيما الظلام يخيم على قريته في كل ليلة بصمت كأنه صمت القبور، قريتهم البعيدة عن صخب الحياة، إلى متى تبقى هكذا؟
يتساءل دون جواب شافي سوى الألم والعجز حتى عن التعبير، وكأن الذاكرة فرغت، أو القلب جفت شرايينه).
السيد حسين العلي