شهدنا الكثير من دعوات التسامح بين البشر على أصعدة مختلفة، وأبرزها التسامح الديني الذي برزت الكثير من المنظمات الحقوقية التي تسعى إلى توطيد التسامح بين الأديان السماوية أو المذاهب الإسلامية، أيا يكن، أصبح الدعوة إلى التسامح حاجة ملحة في وطننا في ظل الصراعات الثقافية أو الطائفية، دعت جمعية الأمم المتحدة في السادس عشر من نوفمبر بيوم التسامح العالمي، حيث سعت بالنهوض بالإنسان وحريته وتبادل الاحترام وقبول الأعراق والثقافات المختلفة، وبثت روح التعاون بين الأفراد.
نلاحظ أن التسامح متوفر في ديننا الإسلامي بشكل صريح وواضح، لكن يأتي بعض الأشخاص بسلوكيات تنافي مبادئ دينهم مما يترك انطباع سلبي لمن لا يعرف الإسلام إلا من أفراده، فيحكم على الإسلام بسلبية وتتشكل صورة شوهاء حوله، فلا يفرق المتابع للوطن العربي بين الإسلام، والوسط الإسلامي، والفكر الإسلامي، فلكل منهم تشكيل معين ويحتاج إلى التمييز بينهم بشكل صحيح، لتحقيق الرؤية الصحيحة للإسلام والمقدرة على الحكم بشكل متوازن، بحيث لا يطغى الحكم ويصبح عام، إنما يدقق في أفراد الوسط الإسلامي والتأثير الواقع عليه من كل الزوايا سواء بيئية أو ثقافية وغيره.
تَولد التسامح الذي نتوق إليه من اللاتسامح الناجم من سلوكيات البشر الغير متفهمة أو الغير مُتقبلة للاختلاف بتنوعه الثقافي أو الديني أو العرقي وغيره، ويستمد اللاتسامح قوته من بعض الأفراد السلطويين والذين يحققون مشروعية مآربهم من خلال التعاليم الدينية المقدسة، كما أن التسامح يفقد كينونته بتضييق الآفاق الفكرية وتقليص الفعاليات الفكرية وتوسع القبلية والعشائرية، فمن الصعب أن يتحقق التسامح في مجتمعات يعمها التعصب واللاوعي وتعيش أوضاع متقوقعة على التقليدية وليس الأصالة.
و لتوطيد التسامح ونشره بشكل واسع يقتضي كما يذكر المفكر محمد أركون، شرطين أساسيين: الأول هو إرادة الفرد في التسامح، والثاني هو ارتباط هذه الإرادة الفردية بالإرادة السياسية الجماعية على مستوى الدولة، وحتى نفهم ظاهرة التسامح ومدلولها، يقول أركون: فالتسامح ليس عبارة عن فضيلة أخوية ما إن تأمر بها التعاليم الدينية أو الفلسفية الكبرى حتى تُتحقق واقعا ملموسا، وإنما هي عبارة عن تلبية لحاجة اجتماعية ولضرورة سياسية في لحظات الهيجان الإيديولوجي الكبير(يقصد بالإيديولوجي النظام الفكري والعاطفي الشامل الذي يُعبّر عن مواقف الأفراد من العالم والمجتمع والإنسان)، كما أنه عبارة عن إعادة النظر بالقيم الخاصة بكل فئة اجتماعية على حدة، ومن المعروف أن لغات هذه الفئات وعقائدها وعاداتها ورساميلها الرمزية تشكل الهويات الثابتة لهذه الفئات منذ عدة قرون.
فحين نلاحظ انعدام التسامح في المجتمعات الإسلامية نُدرك أن أسبابه تاريخية، والتي تَعامل معها وكأنها نصوص تشريعية سماوية، وحيث الملاحظ أن النصوص التاريخية لم تنقح بطريقة نقدية، إنما قُدمت للمجتمعات الإسلامية كما وردت، ومن طبيعة البشر التباهي والتكلف في تاريخهم وإن كانت أساطير!
نجد نماذج كثيرة من التسامح واللاتسامح وأقربها مسافة لجميع الناس، العلاقات الاجتماعية التي تتولد من خلالها السلوكيات المقبولة والمبتذلة والشاذة، ومنها العلاقة الزوجية القائمة على التسامح والمودة والتغاضي والرفق والكثير من السلوكيات الإنسانية التي تمكن تلك العلاقة من الاستمرارية و خلاف ذلك اللاتسامح والتدقيق والجفاء الذي يسهم إلى إثارة النزاع والقلق، ولا يتوقف الأمر عند ذلك، إنما يمتد ذلك التأثير السلبي أو الايجابي للطفل، ويحاول تقليد والديه بين أقرانه.
ومن هذا النموذج البسيط نوسع رؤيتنا للتسامح ليشمل المجتمع الذي يتفانى من أجل أن يقمع كل السلوكيات السلبية التي تجر إلى اللاتسامح، فيتسم المجتمع المتسامح بالمرونة والوعي والقدرة على ايجاد الحلول ونبذ التطرف بجميع إشكاله واستغلال الطاقة البشرية بأفضل ما يمكن وتمكين كل الطوائف من مزاولة العمل باختلاف جنسيهم ودفع الفئات المهمشة أو المستضعفة للانجاز وتقدير جهودهم وغيره الكثير، مما يخلق مجتمعا قويا متمكنا من صدَّ الكثير من التوافه التي تصطدم به.