الراوي عدنان الهجاري الشريف – جدة
احسست بالخوف فجأة يملأ نفسي. وإذا بشعر رأسي يقف. ولساني ييبس. ومفاصلي تتعقد. وفجأة أحس من الجانب الآخر الحركة نفسها وهنا مثلت في أعماق نفسي جميع الصور والقصص الخرافات التي كانت تلقيها (ام الدقسي). لا بارك الله فيها.
في هذه اللحظات أحسست بصوت خرير ماء يصب من إناء لآخر؛ واحسست أيضاً بحركة اشد من الجانبين؛ وهنا تأكد لي انني في قبضة جن وعفاريت ام الدقسي؛ فحاولت ان ازحزح نفسي إلى الوراء لكي اقذف بنفسي إلى الأرض هروبا من هذا الهول الذي اتصوره؛ ولكني لم أستطع التحرك قيد انملة؛ لأن اعصابي مشدودة؛ ولأني عبارة عن قطعة من الخشب لا حراك فيها.
طرق سمعي صوت من إحدى جوانب الشقداف؛ أعقب صوت خرير الماء وهو يقترب مني رويدا حسب ما يتضح من نبرة الصوت ويردد كلمة (بقوس. بقوس)؛ فكنت اهتز لكي اتفلت من الوضع ولكن بدون جدوى ويبدو أن صاحب الصوت الذي سمعته ابتدأ يبتعد عني قليلا ثم سكت فجأة ولعله رأي الحالة التي كنت ارتعش خلالها. ومحولتي الانكفاء إلى الوراء فأشفق علي.
لم اعرف ماهية هذا الصوت اهو صوت إنسان ام حيوان ام صوت عفريت ام صوت سعلوا الذي رسختم في ذهني حكايات ام الدقسي؛ فالصوت وإن كان بذاته يدل على انه صوت إنسان إلا أنني لم أكن اعرف آنذاك أن هنالك اصواتا غير الصوت العربي.
اتضح فيما بعد أن جاري في الشقداف شخصين: رجل وأنثى؛ ولكنهما خارجان عن نطاق معرفتي وتصوري؛ أما كلمة (بقوس) فهي _ على ما اعتقد وكما عرفت فيما بعد _ تعني بلسان إخواننا الإندونيسيين كلمة (طيب. طيب).
مضى الليل طويلا؛ وكنت ارتعش في مكاني من الخوف والرعب كعصفور بلله المطر. لعل القارئ العزيز لهذه الأسطر لن يجد مشقة في مدى تصور مدى الهول الذي عشته تلك الساعات من الليل؛ والتي كان ابتلاج نور الفجر فيها اشبه بالحياة تعود لجسم ميت.
توقفت القافلة؛ ولا أستطيع تحديد مدى الوقت الذي مر على وانا في تلك الحالة؛ توقفت القافلة وإذا بالبسط ترفع عن مقدمة الشقداف فيدخل الضوء؛ فأبصر من كان معي فإذا هما شخصان: ذكر وأنثى؛ فطس الأنوف؛ غريبا الشكل بالنسبة لي؛ غريبا الملبس؛ وإذا بجرة ماء من الفخار معلقة بمقدمة الشقداف؛ وهي التي سمعت خرير الماء منها.
احضر البدوي سلما قصيرا أنزل بواسطته هذين الشخصين؛ ثم خاطبني بقوله: (انزل يا ولد)؛ ولكنني رغم فرحتي وابتهاجي بنور الصبح لم أستطع الحراك من مكاني؛ لأن اعصابي ما زالت مشدودة؛ وعندما رآني لم استجب دار من خلف البعير والتقطني بإحدى يديه وقذف بي إلى الأرض.
بقيت كسيحا في مكاني فترة لا تقل عن ساعة؛ كنت احاول تمديد رجلي وتحريكهما؛ وكانت أخشى ما اخشاه أن يذهب بالجمال ويتركني في موضعي؛ ولكن لطف الله كان اوسع؛ إذ اخذ ينيخ جماله بعد أن أنزل ما عليهم من شقادف على الارض؛ أخذ ينيخها على مقربة مني على شكل دائرة رؤوسها متقابلة؛ ثم غاب عني. وخلال ذلك كنت قد استعدت قواي؛ ووضعي الطبيعي وأصبحت قادرا على الوقوف والمشي؛ وزالت عني يبوسة حلقي ولساني.
وهنا وقفت ادير بصري في أنحاء الساحة؛ فإذا بها مكان فسيح من الأرض. وإذا بي أشاهد من بعد عمودا من الدخان؛ يرتفع إلى أعلى على …
ونظرا لما مر بي من جوع وخوف ورعب وهول؛ ولأنني لم اذق أي طعام او شراب منذ خروجي من مكة؛ فقد احسست بالجوع يلوي بطني ليا؛ واحسست بصداع في الرأس؛ وهو ينتابني عادة عندما افتقد الشاهي.
اخرجت ( الكتب ) ووضعته في جيبي وعمدت إلى الغترة فطويتها على جملي واحكمت عقدها عليه ؛ ثم ابتدأت اغادر موقع الجمل إلى حيث مصدر الدخان ؛ متعرجا ما بين الجمال ؛ وهكذا ظللت اسير حتى وصلت إلى مصدر الدخان ؛ واذا بي اجد مقهى واسعا مفروشا بالحصير وعليه العشرات من الحجاج ما بين ذكور وإناث ؛ وبعض من رجال البدو ؛ وبعض أجزاء من المقهى مظلل بقماش الخيام ؛ وفي أحد جوانبه جرة كبيرة من النحاس فيها بزبوز ؛ وتحتها نار مشتعلة ؛ وعلى مقربة منها عشرات البراريد الصغار بتباسيها وفناجينها ؛ وبجوارها رجل فاره الطول ؛ ومعه مجموعة من الأولاد ؛ ويبدو انهم ابناؤه او صبيان عنده يلبون طلبات هؤلاء الجالسين ؛ وكانت الأصوات عالية : ابو اربعة. .. ابو سته. ابو ثمانية. وهكذا دواليك؛ فيأخذ البراد ويملأه من الجرة الماء الحار؛ بعد ان يضع فيه الشاهي والسكر؛ ثم يعطيه لأحد الأولاد لكي يوصله لصاحب الطلب…
جلست تحفزا ادير بصري يمنة ويسرة؛ وبدون شك أن اي انسان ينظر إلى وضع يدرك أنى غريب. وكان ممن لاحظ ذلك صاحب المقهى نفسه؛ اذ لم تمض عدة دقائق واذ به يمر امامي جيئة وذهابا أكثر من مرة؛ ينظر إلى خلال ذلك؛ ويلاحظ تحفزي؛ وكثرة التفاتي؛ حتى وقف امامي وقال: (ويش تبي يا ولد؟) أي: ماذا تريد؟ وهنا كانت اجابتي بأن اسرعت بمناولته (الكتب) الذي كنت احمله قائلا له (ابي أكل وشاهي)
اخذ (الكتب) واحضر لي شاهي؛ ثم ناد على أحد أولاده بصوت عال قائلا: (يا واد حضر ثلاثة اقراص عيش) وفجأة حضرت الي – كم هي صورة رائعة ومثيرة تلك اللحظة التي وجدت امامي فيها الأكل والشاهي بعد تخلصي من كابوس الرعب.
وعندما لاحظ صاحب المقهى انني التهمت العيش في زمن قياسي لا يتجاوز العشر دقائق؛ قال: (هل ترغب نزيدك خبزا؟) اجبته: لا (لا. ولكني اريد شاهي) فاحضر لي برادا اخر؛ كل ذلك بفضل (الكتب) الذي عرفت فيما بعد أنه يساوي نصف ريال وهو عملة إندونيسية؛ وكانت هولندا تحكم اندونيسيا آنذاك.
امتلأ البطن وزال الجوع وبردان من الشاهي ازالا جميع انواع الصداع وبقيت فرحا مسرورا في المشاهد التي اراها امامي وعن يميني وعن شمالي رجال مختلفو السمات والصور والملبس؛ ونساء على الشكل نفسه إلا أن البعض منهن ضخمات الاجسام؛ بعضهن مستلقيات او متكئات. تعلو صدورهن إسداء بارزة اشبه بالقرب. وقد عرفت فيما بعد ان هذا الصنف من النساء هو يمثل بعض الحاجيات المصريات أو السودانيات.
وقد استرعى انتباهي منظر شدني شدا عنيفا نحوا واحدة من هؤلاء النسوة. كانت تمسك ما بين أوانه واخري ليا طويلا تدخل طرفه في فمها ثم تخرجه نافثه مجموعة من الدخان وكأنه الحطب يتصاعد منه الدخان في اللحظة التي تدخل طرف اللي في فمها كنت تسمع قرقرة تنبعث من ماسورة تعلو إناء مثبتا على الأرض. وفي أعلى الماسورة شيء مدور اشبه بكف يعلوه بعض الجمر. لم يسبق لي ان شاهدت مثل هذا المنظر.
لكي أشبع فضولي بمعرفة كيف تخرج الدخان من فم هذه المرأة الضخمة. كنت ازحف رويدا رويدا من مكاني لكي أصل اليها ويبدو انها لاحظت ذلك مني؛ فقالت تعال (يا وله)
عدت إلى مكاني عند حلة الشاهي مسرورا ومندهشا لا أقلد قيصر او كسرى في ملكه –مكثت على هذه الحال حتى وقت العصر. واستنتجت من ذلك انه حان وقت الرحيل. وكنت عرفت من صاحب المقهى أن هذا المكان يسمى (بحرة).