
الراوي. عدنان الهجاري الشريف – جدة
اصطحبن ابن العم عبد الكريم ممسكا بيدي متجها بي إلى مكان عرفت فيما بعد أنه يسمى (جرول). وهو موضع فسيح تزدحم فيه عشرات الجمال تعلوها الشقادف التي تحتوي كل شقدف منها نفرا أو نفرين من حجاج الجاوة.كانت هذه الساحة مجتمع قوافل البدو الذين ينقلون الحجاج من مكة إلى جدة. وكان يوجد فيها مركز شرطة يقوم بترتيب سير القوافل. وينظم سيرها بإعطاء كل قافلة رقما متسلسلا. وبدون هذه الورقة لا نستطيع السير.
في الوقت نفسه يقوم الكثير من رجال الشرطة بضرب البدو والجمال لإبعاد بعضهم عن بعض. إذ هم متشابكون على موقع المركز. كل يريد أن يسبق الاخر بأخذ اذن السير – كانت الاضاءة خافتة. إذ لا يوجد سوي إتريك علاقي واحد. معلق بعمود على باب المخفر. ولك ان تتصور مقدار العناء والمشقة لمن يقدر له أن يكون موجودا في هذا المكان حيث يجد نفسه كالكرة. إن سلم من عصا الشرطي لا يسلم من دفع البدوي له بمرفقه أو قبضة يده أو دفعه بعنف.
على بعد بضعة أمتار من هذا المركاز وقف ابن العم عبد الكريم ممسكا بيدي وتحدث مع أحد رجال القوافل وكان يلبس عقالا مقصبا ويلبس ثوبا ذا اردان طويلة ويلف على خاصرته قطعة من القماش حمراء طويلة يشدها من خلفه فتتدلي اطرافها من خلف ظهره وهي المعروفة ب (الدسمال).كان الرجل فارع الطول. اسود البشرة. مفتول العضلات. كأنه عملاق. كنت مشدوها بالصورة التي أمامي. بينما كان ابن عمي عبدالكربم يتحدث مع الرجل. وأنهى حديثه معه.
لم اشعر إلا وعبد الكريم يقول لي بعد أن وضع في كفي قطعة فضية صغيرة عرفت فيما بعد انها عملة إندونيسية تسمي (كتب) وضعها في كفي وقال: احتفظ بها لتشتري ما تحتاجه. ثم ودعني مشيرا إلى الرجل بيده قائلا: هذا الرجل اذهب معه يوصلك إلى (جدة). وفجأة اختفى عبد الكريم وسط هذا الطوفان من البشر.
التفت يمينا وشمالا لأرى عبد الكريم. وإذا به كما يقول المثل العامي: (فص ملح وذاب). إذا لم يبق ثمة مجال للتفكير. وعلى هذا الطفل أن يتمسك بتلابيب هذا الرجل البدوي العملاق حتى لا اضيعه. وكان الأنسب لذلك هو أن امسك بكلتا يدي بأطراف دسماله الأحمر الملتف على خصره والمتدلي من خلفه. فكان لضخامته وقوته لا يكاد يشعر بمن يمسك به.بعد جهد جهيد أخذ ورقة الإذن بالسير. ثم ساق قافلة جمالة التي تبلغ نحو العشرة. كل منه يحمل شقدفين على ظهره به نفرين من الحجاج. سارت القافلة على بركة الله. وكانت القافلة جزءا من كل … اذ إن امامها عشرات القوافل وخلفها كذلك ج ممتدة في طابور طويل إلى مسافات طويلة.
بعد الابتعاد عن مكة اخذ رؤساء القوافل يتجمعون بعضهم مع بعض بحيث تكون القافلة امامهم. ويسيرون هم خلف اخر جمل منها على هيئة صف احداهما بجوار الآخر. يتبادلون أطراف الحديث؛كنت اسير خلف هذا الصف ممسكا بدسمال البدوي. كان الوقت آنذاك حوالي منصف الليل – ظللت اسير حتى أخدت أشعر بالتعب. خاصة وأن خطوات هؤلاء العمالقة واسعة بينما خطواتي قصيرة لصغر سني. مما يحملني على السرعة في السير.كنت انتظر من هذا البدوي العملاق أن يركبني أو يلتفت إلي. او يسألني. ولكنه لم يعرني أي اهتمام. ثم بدأت ما بين فترة وأخرى اشد طرف الدسمال إلى بعنف املا في أن يهتم بشأني. ولكنه كان حينما يلتفت إلي يصرخ في وجهي: (أمش يا ولد).
شيئاً فشيئاً خارت عزيمتي من التعب. فلم أعد قادرا على مواصلة السير. فاغتنمت فرصة مرورنا على أول كثبان رمل حيث غرزت فيه اقدامي. وجلست في الأرض. فالتفت إلى صارخا وقال: (امش يا ولد). فقلت: (ما أقدر امشي ارجعني لأهلي) وهنا اتجه إلي وأمسك بعضدي الأيسر. ورفعني إلى أعلى واتجه إلى اخر جمل امامه ووضعني على الجداحة. وهي عبارة عن كيسين من الخيش محشوة بالتبن والصوف توضع على ظهر البعير. جلست القرفصاء على الحداجة : على طرفها الخلفي متحفزا انظر عن يميني وعن شمالي. ولكن لم أبصر شيئا لأن داخل الشقداف ظلام دامس إذ مكسو من الخارج بأردية وبسط تمنع عنه منافذ النور ويبدو أن من بداخله نائمين.
وهنا وقبل أن أصف ما سألاقيه داخل هذا الشقداف. لا بد لي من وقفة استعراض فيها بعض الذكريات. فأولا: في موضع طفولتي أي: في بلدي (عنيزة). لا اعرف ان هناك أجناسا أخرى من الآدميين. بل كل ما اعرفه ان الرجال صنفان إما ابيض وإما اسود. الأبيض هو الحر. والأسود هو العبد المملوك او الذي أعتق من الرق.والبيض سحنتهم وملامحهم متشابه من حيث تقاسيم الوجه ومن حيث شموخ الأنف ومن حيث الملامح الأخرى. والعبد به الشيء نفسه إلا أنه في الغالب يكون انفه أفطسا. مضافا إلى ذلك فإنه _ بحسب مداركي _ لا يوجد لغة غير اللغة العربية. فلم أكن أعلم أن هناك اجناسا متمايزة السمات. مختلفة السحن. متعددة اللغات. متباينة في القامات والقصر والطول والملامح.
ثانيا: (ام الدقس) والتي كانت دارها بجوار دارنا. كانت ام الدقسي عجوزا حيزبونا كفيفة البصر. قد شارفة على المائة عام من العمر. وكانت تختزن في جعبتها قصصا وأحاديث لا تنتهي من الخرافات تدور كلها حول السحرة وحول الجن وحول العفاريت وحول (السعالوا).(وكلمة السعالوا في مصطلحها تعني حيوانا غريبا غير مرئي يقتنص الأطفال ويبلعهم). اما العفاريت والجن فحدث ولا حرج. تبدع لها قصصا مشوقة لا تنتهي.
واصلت القافلة سيرها وكنت آنذاك شرحت سابقا جالسا على مؤخرة الحداجة: مما يلي خلف البعير. كنت اجلس القرفصاء جامعا ركبتي إلى صدري وجالسا على اقدامي مؤخرة عجزي. مكثت دقائق متحفزا مذعورا أجيل طرفي عن يميني ويساري داخل الشقدف. لا يوجد فيه أي منفذ للنور. كنت مذعورا وكانت شدة الظلام تزيدني رعبا. وفيما كنت احاول جاهدا التفكير فيما يجب أن افعل إذا بي أحس عن يميني بحركة خفيفة توحي بأن في هذا الظلام شيئا ما يتحرك. وهنا احسست بالخوف فجأة يملأ نفسي. وإذا بشعر رأسي يقف. ولساني ييبس. ومفاصلي تتعقد. وفجأة أحس من الجانب الآخر الحركة نفسها.