في عالم الفن تضيق مساحة الفرص للسياحة في الأيديولوجيا و استشراف عالم الأديان ، لكن ركوب بعض التَّنويريّين لموجة الحدث.. أيّاً كان هذا الحدث (إجتماعياً أم دينياً أم سياسياً أم غير ذلك) هو ما يجعل الحدث نفسه (سقوطاً مجازيّاً) في عدستهم الليبروإسلامية الدرامية الراصدة لأبعاد أخرى غير أبعاده المألوفة !
لا أقول بأن الدور الإعلامي في تهويل هذا الحدث – وهو رحيل الفنان عبد الحسين عبد الرضا – (وغيره من الأحداث) .. لا أقول بأنه كان جزءاً من اللعب السياسي الذي يهدف إلى تحريك الأقلام الراكدة وتسخيرها في إغراق الجمهور والوسط الفني في اللهو والابتذال تارةً و في الحزن والدموع تارةً أخرى ، إنما أرى أقلاماً تمارس وصاية دينية و فكرية و اجتماعية ، تغيب عنها الوسطية في الوعظ و لا تلتفت إلى أن سيكولوجية الفرد لا تقبل المحاسبة المتعالية على العقل و النفس الإنسانية .
إن ثقافة الوصاية لا تكون إلا في حق من يعوزه راعٍ لمصالحه أو وصيٌّ ينوب عنه في إدارة شؤونه العامة ، و الكاتب الإمامي الواعي والناضج لا يخلق في الجمهور الشيعي شعوراً بالقصور والدونية ولا يجعله في توجِّسٍ دائمٍ من سطوة قلمه أو مراقبته أو التسلل إلى أفكاره و نواياه !! وربما رأى في مواعظه مواعظَ عبثية لا تصلح لتصحيح وتقويم اعوجاج فكرةٍ أو سلوك .
وبعد أن توالت أحاديث الاستهجان والاستخفاف بالعقول على ألسنة الكثيرين .. يأتي أحد الذين نصَّبُوا أنفسهم أوصياء وحَمَلَةً لرسالة العلم ليقول في عبد الحسين عبد الرضا قولاً عاب على غيره الخوض فيه : [ لستُ ضد محبة الممثلين ، بل والمغنين والراقصات إن جمعنا معهم الإيمان والوطن ، ولستُ أعترض على الترحم عليهم ومواساة عوائلهم الكريمة ، ولكن بدون التخلي عن الحصافة ووقار المتدين والسلوكيات المعهودة التي درج عليها علماؤنا الأجلاء وتمثل بها المتدينون في طول عهد الإسلام ] !!!
ثم يُذَكِّر (المتدينين) في سطوره الأخيرة بمقتضى تكليفهم الشرعي !! وذلك بعد أن وضعوا أرجلهم في مستنقع و وحل هذا السقوط (سقوط المتدينين الشيعة) : [ فوا أسفاه على ما جرى . إن كان ولا بد لكم من ذلك ألم تستطيعوا أن تحصروا أو رثاءكم على بحب الراحل لوطنه ؛ وزيارته للحسينيات ودعمها ، وأعماله الخيرية ، وحفظه رغم صعوبة الأمر على اسمه الحسيني البهي الجميل ..؟!؟ ] !!!
من آثار السخرية ما رُوي عن الإمام الصادق عليه السلام : (لا يطمعنّ المستهزئ بالناس في صدق المودة) . و أيَّة حصافةٍ وأيّ وقارٍ وأيَّة سلوكيات معهودة تلك التي درج عليها علماؤنا الأجلاء (وذهب إليها الكاتب) يلزم الأخذ بها في محبة الممثلين والممثلات والمغنيّن و المغنّيات والراقصين والراقصات !!! روي عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم : (من أذاع فاحشةً كان كمبتدئها ، ومن عيَّر مؤمناً بشيءٍ لم يمت حتى يركبه) .
التَّعيير هو من أشد أنواع الأذى لما يشتمل على التوهين و سلب صورة الإيمان عن المؤمن ، روي عن نبي الله الخضر عليه السلام في وصيته لموسى عليه السلام : يا بن عمران ! لا تُعيرنَّ أحداً بخطيئة وابكِ على خطيئتك ، فمن جهة قام الأخ الكريم بتعيير الراحل بالرقص و الغناء – رُغم إيمانه – ثم دعانا إلى ذكر شيء من إرث أعماله النوراني و من جهة أخرى نراه لا يُمانع في حب الممثلين و المغنيّن والراقصات من أبناء الإيمان أو الوطن !! روي عنه صلى الله عليه وآله أيضاً : (إذا زنت خادم أحدكم فليجلدها الحَدَّ ولا يُعيِّرها) !
المتدين الشيعي لا يمجد رقصاً ولا غناءً لعبد الحسين عبد الرضا ولا يصفِّق فرحاً للمنكرات والمآثم التي اقترفها و أظهرتها شاشات التلفاز ، ولستُ في موقعٍ يجيز لي نبش القبور أو تقليب صفحات الأموات وقراءة تبعات المؤمنين منهم على الأحياء !!
يقول الأستاذ علي الوباري (كاتب و أديب) : ” إن فضاء المحظورات الشرعية يزداد رحابةً و اتساعاً هذه الأيام ” وأقول بأن للمحظورات الشرعية مَزالق كثيرة على أرض السير والسلوك تزداد خطورة وتزيد السالك خوفاً ! وليس من الإيمان أن ننسب الزلل والخطيئة و هفوات الجوارح إلى غيرنا من الناس ونجعل أنفسنا بعيداً عن معرض الزلل والخطيئة .
القراءة الجديدة للدين هي ما يقف عند حدودها بعض الرساليين نظراً لعدم الفهم المرن لبعض فصولها ، وعندما يتناسون المزاوجة بين التفكير المعتدل والعواطف العامة يذهبون إلى الغوص في عمق القيم الإنسانية النبيلة (المزعومة) ! ” ونحن لا نقول بالنزعة العقلية واستقلالها عن العاطفة والجانب الوجداني ” . وهي في معظمها لا تعني الخطاب الفَجّ ولا التحليل الاستشراقي في تفسير النصوص الدينية من زاوية العلوم الأدبية أو الإنسانية و تفكيكها ؛ للإلتفاف على النص أو جعل الدليل تابعاً لا متبوعاً ! والرسالي الصادق لا يخط سطور الإصلاح ولا يكتب خطاباً نهضوياً إلا بإملاءات العقل المنسجم مع الخلق الكريم لأهل بيت العصمة والنبوة عليهم السلام .
لا للقراءةِ الإسقاطية التي تُمارَس على النصوص الروائية والدينية والتي تكون بمقتضى الانتماءات المذهبية و المواقف الأيديولوجية ، فالنص الديني هو نصٌّ مفتوح على احتمالاتٍ صحيحةٍ أو فهمٍ متعدد لكن ليس لكل من هَبَّ ودَبَّ في واحة العلوم والمعارف !!
ولا للغةِ التَّهكُّم والإسفاف وابتذال العقول فهي لغة تستفز المشاعر والعقول في آنٍ واحد .. فالتهكم أو التلاعب النفسي والذي يهدف إلى تغيير نظرة أو سلوك الآخرين من خلال تكتيك مسيء أو ملتوٍ أو خادع .. هذا النمط الوصائي المتعالي لا تعدو دوافعه دون شك (الرغبة في الظهور والسعي وراء اهتمام الأهواء والذوق العام) !
إن كَثُرَ العاذلون حين (استرجعنا) في رحيل عبد الحسين عبد الرضا أو جاء بعض الأوصياء وأخذونا على حين غِرَّة لينالوا من سلوك المتدين ويسفهوا أقلامنا و عقولنا ..! فإني أقول وبوصلة حديثي تشير إلى المتهكِّمين ومن أرادوا أن يفتحوا لنا باباً إلى علمهم عُنوةً :
نحن إخوتكم في الإيمان ، وقدوتنا الأولياء وعلماء المذهب الأعلام العارفون بحدود الدين وأحكامه ، وهم أمناء الله على حلاله وحرامه وبأيديهم مجاري أمور هذه الأمة ، ولم نقل ولم نزعم بأن عبد الحسين كان أحدهم و كذَّبْنا ونكذِّب كل من يقول بذلك أو يدَّعي .
جُلُّ ما ذكرناه أن الرجل كان قامة كبيرة فاخرة فنّاً و تواضعاً و إنسانيةً و إبداعاً و كان علامة فارقة و بارزة في تاريخ الفن الخليجي ومؤسساً لفرقة المسرح الكويتي و الخليجي على حد سواء ، ومن الرواد الكبار في الدراما العربية .
رجلٌ تسامى عن الطوائف والمحسوبيات وحظي بحب جمهور الفن العربي على اختلاف أطيافه وانتماءاته . كما حظي خبر وفاته باهتمام كبير إلى درجة لافتة و ماذاك إلا لرصيده الكبير من الميراث الفني والمواقف الإنسانية و الوطنية ، و كان عابراً لكل حدود الطائفية في ظل انتمائه للمذهب الشيعي .
لم يقدم على تغيير اسمه الذي سمِّي به (وهو عبد الحسين) إلى اسم فني آخر ! وكان من القلة الذين لم يكن للإعلام جرأة في خلق حصارات مذهبية حولهم .. تلك الحصارات التي طالما أقعدت الكثيرين من أبناء التشيع وقيدتهم إلى الأرض فلم يلحقوا بركبٍ ولم يقودوا بعدها إلى العُلا مسيرةً .! انتقد كثيراً من القضايا السياسية والاجتماعية الهامة من خلال كوميديا ساخرة وهادفة (جمع على حبها المؤيد و المعارض) . وتفوق أخيراً على بريق نجوميته الفنية و التمثيلية بأمرين : دعم جيل الشباب ومشاركته تلك النجومية وعدم تخليه في ذات الوقت عن رفاق دربه الدرامي الطويل .
قد يكون الخير فيما يدفع البعض للجنون والاحتراق (هو الهدوء و عدم الاكتراث أحياناً) و قد يكون أحياناً في همسة أخوية ولائية مفادها : (أنّ العمل بمكارم الأخلاق و آداب الوعظ فيه رفعة وسمو النفس الإيمانية فهي الكفيلة بتهذيب النفوس وقيادة العقول إلى التطور و التحديث وفيها خلاف ما تشتهيه الأهواء من جلد المؤمن بسياط التقريع أو التوبيخ .. وبملازمتها يخرج الواعظ من ذل العبودية للأهواء إلى عز العبودية لله) .