
العنوان اسمٌ معروف لأحد إصدارات الشاعر الكبير جاسم الصحيح اخترته عنوانا لما سأكتبه هنا من تأمّلات بشعر الصحيّح ،لأنّ العنوان جميل وله مُعطياته الدلالية والجمالية والبلاغية .
كما أنه مُتوافقٌ مع مانريدُ أن نقوله من خلال هذه السطور الجمالُ يستحق التتويج والروعة تستأهل أن تكون في القمّة الأكثر ارتفاعاً وشموخاً على جبل التقدير والعرفان لكن كيف هو الجمال هل له شكلٌ محدد أو ملامح معيّنة الجمال لايمكن أن يعبّر عنه إلا الجمال نستطيع أن نستجليه بوضوح عبر تلألئ العيون حين ترمقه ووقوف الدهشة عند عتبته واتّفاقِ الرؤى حوله وتلاشي الأصوات في حضوره فكيف إذا انعتقت كل معانيه معاً لغةً ، وإنسانيةً ،وتواضعاً .
سنقف هنا لنقرأ بعض آليات الجمال الأدبي في بعض من نصوص الشاعر القدير جاسم الصحيح الذي أصبح ظاهرةً تستقطبُ الأقلام والكُتّاب ومُحبّي الأدب بما لديه من مميزات ومقامات تتسامى من بين السطور(لتهدهد مافي القلوب من اللظى ) (وتقدم قرابين المشاعر والدهشة ) لتخلق بداية مثيرة لتعارف وصداقة نبيلة مع هذا الحرف العملاق الذي لايستطيع قارؤه إلا أن يكون أسيراً لسطوره وكلماته .
الاختلاف ،واقتناص اللحظة ومنْحُها تكويناً جديداً لتصبح مدهشةً ،براقة. كدرّة صقيلة تخطف العقول ،هذه براعةُ ربّانٍ ماهر ،يجيد قيادة مركبه في بحر اللغة ،وصيد الكلماتِ بطريقته الخاصة التي لاتشبه أحداً . .
لكنّ الأجمل هو أن يبتكر أثناء الإبحار سلالماً ،وسموات جديده ،في المقابل ،لتبقى متحيّرا بين ارتفاع سماءخياله ، واتساع وعمق بحر لغته ،وهاهو يضعنا في الصورة من ذلك العالم الجميل حين يتّخذ من هذا البحر /اللغه الشعر ….. سميراً يحادثه ويفضي إليه وإلينا ببعض أسراره حينما نقرأ هذه الأبيات :
يـــا بـحــرُ.. يـــا شـيــخَ الـــرُّواةِ عـلــى الـمَــدَى
مُـــتَـــعَــــوِّذاً مــــــــــن مـــــوجـــــةٍ تَــتَــلَــعْــثَــمُ
حُــــرِّيَّــــةُ الــكــلــمــاتِ فــــيــــكَ.. تــقـــاصَـــرَتْ
عـنــهــا الـلــغــاتُ ولـــــم يَـسَـعْــهــاَ الـمـعــجــمُ
وكان هذا أحد النصوص المهمة والمميزة من بين جميع مواسم أمير الشعراء حيث اتّضحَتْ المكانة الشعريّة بشكلٍ واسع ومُلْفِتْ لهذا الشاعر الأحسائيّ الكبير ،واتّسعتْ مساحة متابعيه ومعجبيه إلى أبعد الحدود . يكفي لأن تقرأ بيتاً كهذا لتُدركَ درجةَ شاعرية الشاعر وشعريّة شعره :
في صِحَّةِ «الشِّعرِ».. ألـوي مـن زجاجتِـهِ
جيـداً وأسكـبُ «تشبيـهـي» و«توريـتـي»
لِـــي خـمــرةٌ شابَهَـتْـنـي فـــي غوايـتِـهـا..
مـن «تــاءِ تأنيثِـهـا» استوحـيـتُ قافيـتـي!
ولطالما تسامر وتناجى في قصائده مع هذا الكائن ، (اللغة )الذي أصبحَ هاجسَه في الحياة. يقول في نص آخر بعنوان( رحلة إلى لؤلؤة اليقين( هلْ في وصولكَ للمحارِ بَيَانُ يجلُو الشكوكَ فَتُؤْمِنُ الشُطْآنُ؟
لقد آمنَت به الشطآن وبصيده من لآليء وجواهر لغويه نادره وبرغمِ إبحار لغته للعمق الأعمق من الجمال إلا أنّها لم تبتعد عن شطآن القاريء ،بل كانتْ لصيقةَ همومه وأحاسيسه ،أفراحه وأتراحه،آماله وآلامه ، مُستمرةً في سبْر أغوار هذا العالم الإنساني ،بمعالجة فنية ذكيّة لقضاياه وقصصه وعواطفه وعُقَدهِ وضحكاته وبكاءاته بإلماحات تتّسع وتضيق حسبَ رؤيته الفنيّه .
ولعلّ هذه المُلامَسة العميقة لقلوب الناس ووجدانهم كانتْ سبباً في مدّ أواصر الحب الجليّ بينهم وبين شعرِ الصحيّح ، فشلاله الشعري وافرٌ بمعاني الإنسانيه و سنستشهد بأبيات من قصيدة هي من أجمل ماقيل في الأب ،والتي تفاعل معها القراء والمتابعون في برامج التواصل الاجتماعي وأعادوا تغريدها بشكلٍ مستمر :
روحُ الأُبُوَّةِ تحمينا من الكِبَرِ
ما مِنْ أبٍ فائضٍ عن حاجةِ البَشَرِ
إلى أن يقول :
آباؤنا يالأفعالٍ مضارعةٍ
مرفوعةٍ بالضنا والكدّ والسهر
هم يحملون الليالي عن كواهلنا
فيكبرون ونبقى نحن في الصغر
للمرأة /الأنثى /الأم/ الأرض /الحبيبة /اللغه كان نصيب وافر وفيضٌ غامرْ في أبجدية الصحيّح على سبيل المثال سنذكر هنا بيتاً تداولته المواقع بشكلٍ مُلفِتْ وجبّار حيث يخْتَزلُ كلّ ما يمكن أنْ يُقالَ تجاه قلب أنثى لكسْبِ ودّه وثقته ، ويختصرُ عدّة مسافات من الشّرح والحوار الذي يمكن أن يقوم بين رجلٍ وامرأة في فضاء عاطفيّ حميم :
ملأتِني بكِ حتى مَسَّني خَجَلٌ
من فرطِ ما غازلَتْني أَعْيُنُ الناسِ
ما عاد يملأُ رأسي خمرُ دالِيَةٍ
صُبِّي جمالَكِ حتى يمتلي راسي!
كلُّ النساءِ أحاديثٌ بلا سَنَدٍ
وأنتِ .. أنتِ .. حديثٌ لابنِ عبَّاسِ
هذا ذكاءٌ شاعرٌ وحسٌ فني متمازجٌ مع فكرٍ ناقد متّسع الثقافات،باذخٌ برمزيّةِ جميلة اعتمدَ فيها إسقاطاً مَعرفياً متعلّقاً بعلم الرجال وأهل الحديث ،في اقتناصٍ بديع وجديدْ في اللغة والشعر، مُختزلٍ لفكرة التجديد في الرؤى الفنيه ، لنلاحظ أيضاً معاً كيفَ يسخّر الصحيّح علم العروض والتفاعيل الشعريّة لخدمةِ أغراضه الأدبية ،وكيْفَ لبّى العروض نداءه طواعيةً وبكل سلاسة مُنفّذاً أوامر الشاعر البلاغيّة والفنّية ،في خروجٍ عن المألوف الشعريّ ،بقوله في إحدى روائعه الغزليّة :
يا مَنْ تسيرينَ و(البحرَ الطويلَ) معًا
حيث (التفاعيل) من لحمٍ وأوصالِ
جَرْسُ القصيدة من ساقَيكِ منبعُهُ
لا ينبعُ الشعرُ من حِجْلٍ وخلخالِ
وفي هذا البيت أيضاً :
أُؤَوِّلُ بُعدَكِ عنِّي
كمُمتَدِّ (بحرِ الطويلِ)..
أُؤَوِّلُ قُربَكِ منِّي
كمَجزُوءِ (بحرِ الرَّمَلْ)
..
تاريخٌ شعريٌ حافلٌ بالجمال والمغامرة في لعبة اللغة والتحليق عبر أجنحة الكناية في فضاء المجاز حيثُ يتْقن هذا الشاعر الإنسان أعادة صياغة الحياة بكل ألوانها ، عبر بيتٍ شعري، وقد تجد ببساطة كثرة تناصّه مع الحياة بكل أشكالها ،الجماليه والعقدية والدينيه والفطرية ، والاجتماعية كمافي هذا البيت الجميل الذي أجاد فيه توظيف الاستعارات ليكون الحج هو الحب والعكس كذلك :
هل (نُلَبِّي) الغرامَ موسمَ (حجٍّ)؟
هل نُؤَدِّي مناسكَ التشويقِ؟
هل (نُرَوِّي) المُنى و(ننحرُ) شكوانا
ونُحيي (لياليَ التشريقِ)؟
أمّا هنا فلغته تتمثّلُ صورةً اقتنصَت من فضاءٍ آخر لنفس الدالّة (الحج) لكن بشكلٍ مختلف ،قد يكون أكثر تعقيداً،لكن في نفس الوقت كان موفقاً كثيراً على المستوى الدلالي في البيتين التاليين :
وبدأتُ (حجّي) للحقيقةِ (كعبةً)
والوعيِ (رُكنًا) واليقينِ (مقاما)
حجٌّ بطول العمرِ.. لم أخطئْ بهِ
(شوطًا) ولم أخلعْ لهُ (إحراما)
وفي إحدى روائعه الشعريه (جرحٌ مفتوح على نهر الكلام ) منذ اطلاعك على العنوان أنت ستُجري ارتباطاً بين الجرح والألم من ناحية والفيوضات الشعرية من ناحية أخرى ستحتار وسيلجمك جمال المعاني والحضور والخطاب الشعري حيث يصوغ للقراء عقدا من الذهب ، متحدثا عن جاسم الشاعر وإشكاليات الكتابة لديه حينَ يعلن أن القصيده تولد حين تبكي السماء بدمع عينيه فيبدأ بِهزّ غربال القوافي ، وينخل ذمّة الأشياء :
بَكَتْ عينُ السماءِ بدمعِ عيني
على ميزانِها المكسورِ عَدْلَا.
وعُدْتُ أهزُّ غربالَ القوافي
لأنخلَ ذِمَّةَ الأشياءِ نَخْلَا
نظرتُ إلى الحياةِ رأيتُ أُمًّا
تُرَبِّي الأرضَ رابيةً وسَهْلَا
وأبصرتُ الدروبَ دروبَ عُمري
متاهً يشبهُ الأمعاءَ شَكْلَا
وعَلَّمَني السقوطُ ببئرِ نفسي
بأنَّ الماءَ في الأعماقِ أَحْلَى
ترى كيف هو هذا السقوط ِمِن أيّ الارتفاعات، يكون السقوط ببئر الذات ؟ وماهو هذا الماء ماطبيعته ؟ المعنى هنا لا نهائيٌ بامتياز ، وهذه من مميزات الشعر الحديث ،حيث الرمزُ بوابةُ المعاني المتعددة التي يمكن أن تردَ بذهن القاريء.
وهنا يقدم منهجاً للحبّ والحياة ،عبر قصيدة بعنوان (اللعبة العبَثيّة ) وفي البيتين إسقاطٌ تاريخي وموروث عربي تمت معالجتهما بالأسلوب ( الصحيحيّ ) المختلف بشكل رائع لينتُجَ آيةً من الشعر ، فيها فيضٌ من السحر ،
) ومنها هذين البيتين الجميلين
لاحبّ حتى ننتمي لقلوبِنا
ونحُزّ رأسَ الفكرةِ القبَليّة
الحب طفلٌ هاشميٌ ثاكلٌ
أسرَتهُ عينُ صبيةٍ أموية
هامش : هل لاحظت معي عزيزي القاريء أن هذا الشيء ( الحبّ ) في كوكب الصحيّح متوفّرٌ في جميع الأصعدة ، حتى في الخلاف الأموي الهاشمي ! لغته سفرجلةٌ تفوح بأبجديات الغرام ،سواءً اتّخذت طابع العمود أو التفعيلة ،كهذه الجزئية من نص تفعيلي بعنوان (آخر مقامات العشق)
لُغتي سفرجلةٌ تفوحُ بأبجديَّاتِ الغَرَامْ
وأنا وأنتِ غوايتانِ سَخيَّتَانِ
فما اكتفَى الشوقُ الحلالُ من الهوى
إلاَّ هفَا الشوقُ الحرَامْ
هل يعرفُ الشوقُ الحلالَ من الحَرَامْ ؟
وربما يتجلّى الشاعر الفيلسوف /الفيلسوف الشاعر في كثير من الصور الشعريّة التي يقدّمها المبدع أبو أحمد في الكثير من نصوصه. لعل أبرزها نص.عنونه الشاعر ب(السمّ العبقري) مُتماهياً بحكاية سقراط وموقفه التاريخي الذي أصبح وساماً تتقلّده الفلسفه ليقدم من خلال هذا الإسقاط التاريخي والفلسفي عدداً من الرؤى والمقترحات المنبثقة من عُمقٍ إنساني فلسفي ،نذكر من القصيدة هذه الأبيات :
لمْ يعرِف التاريخُ شرّ حراسةٍ
من أن يكون المرء حارسَ وهْمهِ
كنْ شيخَ ذاتِك في الحياة ولا
تدَعْ سُقراط ثانيةً يموتُ بسُمّهِ
أما الوطن فلم يكن أقل حظّا من تلك الوجدانيات ،يتجلّى ذلك في هذه القصيدة فهو بعد عدة تساؤلات في حوار حافل بلآليء الدهشة وجواهر الحكمة التي يستعرض من خلالها مميزات هذه التربه والبقعة المقدسة التي ينتمي إليها مؤكّداً اعتزازه بتاريخ هذا الوطن ، و مشيراً إلى الكثير من رموزه ،بدءاً بقداسته وانتماء النبوة إليه ومروراً بطبيعته مع ذكر أهم مدنه كنجد وأبها والأحساء وطيبة الطيبة ، ولم يفته توظيف الطبيعة الصحراوية والشعبياتٍ كالعرضة ،وتربية الصقور ، وكذلك الأزياء التقليدية 🙁 العباءة ،الدشداشة ،العقال ) للتأكيد على حضور هذا الوطن في قلبه وعقله ووجدانه ،ليجيب في أواخر القصيدة عن تلك التساؤلات والافتراضات بهذه الأبيات عميقة المعاني وجليّة الوطنية :
مقدارُ ما (نَجْدٌ)* تهبُّ لِـ(ـعَرْضَةٍ)*
فَتَدُقُّ (أَبْهاَ)* الطَّارَ والمزماراَ
مقدارُ ما (الأحساءُ)* تحضنُ (طَيْـبَـةً)*
في نخلةٍ حَمَلَتْ هَواَكَ ثِماَراَ
هذي البلادُ وهذهِ أبعادُها
حُبًّا يُضيفُ إلى الدِّياَرِ دِياَراَ
وأَعَزُّ ما في الحبِّ أنَّ شقاءَهُ
قَدَرٌ يُوَحِّدُ حَوْلَهُ أقداراَ !!
وله في الأحساء وهو المولود من رحِمها المنجِبة للوفاء،الطالعُ من بين ينابيعها شامخاً كالنخل الباسقِ ، محمّلاً بالتمورِ الشعرية الفريدة ،والنادرة:
أُسَمِيكِ أُمِي كي أوفِـي لَكِ الأسما
فبينكُما في نطفتي وحدة عُظْمَى!
أُسَمِيكِ أُمِي.. والأمومة موطنٌ..
بمقدارِ ما (ننمو) عليهِ لهُ (نُنْمَى)!
أُحِبُكِ يا (أحساء) في كلِ كِسْـَرة
من الطينِ شَعَتْ في يدي قَمَرًا تَـما
أنا ابْنُكِ فَلاَحُ القوافـي، فطالما
طَبَعْتُ بمحراثي على قاعِها خَتْماَ
هكذا هو في كل صحراء يصل إلى الكنز ، فهل هو يا ترى ( حجر الفلاسفة ) وقع في قبضة الشاعر أم أنّ هناك عواملٌ أخرى تسندُ الموهبة! ومما يثير الاهتمام أنّ عناوين القصائد والمجموعات للشاعر جاسم الصحيح هي منتقاة بعناية ، ولم يخل بعضها من تناص مع القرآن أو الحديث أو الحياة بشكل عام نذكر مثلاً (كي لايميل الكوكب ) (ماوراء حنجرة المغني ) (نحيب الأبجدية ) حمائم تكنس العتمة وغيرها.
في شعر الصحيّح لاتحاول البحث عن بيت القصيد ،أؤكد لك أن كل بيتٍ قصيدة ،ولماذا أؤكد لك ،أنت تعرف هذا الشاعر أكثر مني ، فقد حظي بشعبيّةٍ منقطعة النظير ، وعرف حرفه السبيل للوصول إلى العامة قبل الخاصة ، وفرحت بمعاصرته كل هذه الجماهير ،لأنه اسمٌ ساطع سيبقى خالداً بنصوصه ، يقول (نودييه )إن الكلمة ثمرة للفكرة فمتى نضجت الفكرة سقطت كما تسقط الثمرة الناضجة , ولكنها تسقط على كلمتها ” أما في عالم الصحيّح ربما لاتسقط تلك الثمرة. على الكلمة فقط بل تعانقها وتحلّقان معاً إلى لانهائيّة الإبداع .