يبقى الانعكاس يلمع في ذاكرة من تتركهم في رحلة لا عودة بعدها حيث تبقى الصورة ملونة كتلون الذكريات . إن أجمل تركة تتركها هو ذكرياتك المخلدة في نفوس من يهمك ، وتتصاعد درجة الاهتمام عند من ترتبط معهم بحكاية زمان ومكان وتمازج وجداني . فحياتنا جزء من تلك الآثار التي تتحيز في داخلنا إحساسا خالدا لا ينتهي ، وهي انعكاس لعمر نعيشه بكل وجداننا .
ما أجمل أن تكون هوايتك صور تخلد بها الأحداث ، وانطباع تنقشه ابتسامة على محيا من بقي بعدك ، ليتذكرك حين الاشتياق . فهو من يعيد ذاكرتنا إلى الوراء ، حتى لو نحلت أجسامنا ، واشتعل الرأس شيبا بتقادم السنيين . إن اختيار الصورة يعني البقاء مرسوما بالنفوس ، فالصورة تعيد للبصر لمعانه ، وللعيون قوتها عندما تنعكس على الذهن ، وتلون معالمها بألوان الذكريات .
إن الصورة تمثل حقبة طالما نشتاق لها ، وقد يكون سر الاشتياق فيها إعادة ما علق في الشعور واللاشعور من بقايا الذكر الطيب ، حيث نعيد تصفح الصور حين يعجزنا القدر أن نعيد ما فات من العمر ، ونعيش الحسرة على ما مضى ، فلم يبق إلا أرذل العمر ، فهذا هو هادم اللذات و مفرق المحبين خير موعظ بالحياة .
نعم ! .. فلقد مات من أحب (الكاميرا) وتفنن بالصورة ؛ والصورة الآن تسأله عن نفسها وعن فنها وعن إبداع إخراجها . وها هي صوره ماثلة في ساحة العمل التطوعي بلجنة التنمية الاجتماعية ، وبالمناسبات الاجتماعية . ولإن ذهب صاحب (الكاميرا) ، ستبقى صوره في أذهان المحبين ، فالكثير من يطبع صور الجمال والأريحية في نفوس الناس ، لتبقى بصمات إنجازاتهم محفورة . إن من يتجاوز حب الذات ، ولا يعيش سُكر النرجسية يمنحه حب الآخرين عمرا مديدا بقلوبهم .
لقد عاش للعطاء رغم صراعه الدائم مع الموت في كل حين ، فالكثير يجمعك القدر معهم برهة من الزمن ؛ لكن جوهر اللقاء يدوم من خلال هدفه الباقي وغايته السامية ، والكثير يموت كل يوم ، لكن القليل من يُذكر ويعلو صوت الحزن من أجلهم ، والقليل من تنطبع صورهم في ذاكرة الأيام ، وتبقى صورة ملونة وثابتة لا يغير ألوانها تعاقب السنيين .
هذه هي الحياة تخطف من نحبهم ، وتسرق لحظات العمر في غياهب الزمان . نعم .. هو الحق الذي يساوي الكل ، لا يبقى ولا يذر تعقبه نفثات الحزن ، يدثر الفاقدين بلحاف الأسى في هزيع الليل ، يجنح بالقلوب نحو ظلام الفقد ، يسرع بنبض الأفئدة ، يأتي على الكل بدون استئذان كي يفتح باب النهايات من غير دق الجرس ، الفقد يحملك إلى جبهة صراع الحزن مع الصبر ، تتأرجح الدموع بين ذكريات سعيدة منقضية ، وبين أيام قادمة ستلهب القلوب فيهل بسبب الفقدان .
أيتها الضحكة العابرة بين عيون الذكرى ! .. قفي قليلا ؛ لنتذكر من فُقدوا بأفراحهم على ضفاف الجراح والعطاء .. أيتها البسمة التي لا تنطفي في شغاف القلوب .. ابقي مشتعلة بالنفوس ، لعل الأفئدة تهدأ عندما تنبش الأيدي اللحود ، وتشتم الرياحين وتعطر أنفاس زوار التراب ، فالماء المسكوب على القبور ينعش شجيرات الفناء ..
أيتها الروح المتحررة من قيود البدن ، رفرفي في عنان السماء ، واسجدي شكرا في محراب البقاء ، ورتلي مناجاة الغفران والرحمة لمن بقي ينتظر على مقعده بدنيا فانية .
بقلم : علي الوباري