إذا كان بمقدورنا أن نعطي اسماً لكل عام يمضي، فإنه يمكن أن نسمي العام 2016 عام (الجرأة على الديني).
ونقصد بـ”الديني“، كل ما يمثّل الدين من مجتمعات أو رجال أو مؤسسات أو حتى تفكير أو طقوس وسلوك.لطالما شهدت السنوات الماضية مواجهة بين الديني والثقافي أو بين رجل دين وبين مثقف، وهو صراع طبيعي بين متنافسيْن داخل المجتمع، إلا أن الكفة تميل دائماً من الناحية الاجتماعية لرجل الدين، بحكم ما يتمتع به من سلطة تاريخية واجتماعية، وتكون المواجهة متكافئة بين رجليْن متعلميْن يتحاوران، يحترم كل منهما الآخر، وليس بالضرورة أن يتفقا أو يلتقيا في نقاط مشتركة، ولكن المتفق عليه أنهما قبل أن يغادرا يصافح بعضهما الآخر، من دون أن يَفسدَ الودُ بينهما.
في العام 2016م لم تكن المواجهة بين رجليْن راشديْن فقط، بل أيضاً بين شاب مقابل رجل دين، بل كانت مباشرة مع الدين نفسه، فقد شهد العام 2016م إعلان عدد من الشباب والفتيات تخليهم عن الإسلام إلى الإلحاد، أو اعتناقهم الدين المسيحي، أو توجيه النقد الحاد إلى الدين وإلى رجاله، والتحدث بنبرة حادة عن المشائخ والعلماء والمراجع الدينية، والتشكيك في بعض الأحكام الشرعية التي لا تروق إلى الشباب أو التي لا تنسجم مع العقل والتفكير حسب رأيهم، أو التي يرَون أنها لا تتماشى مع روح العصر.
لستُ هنا بصدد الدفاع ولا التبرير فقط أرصد حالة جديدة في مجتمعنا.قد يكون التخلّي أو نقد بعض الأحكام الشرعية أو الجرأة على الدين ككيان مقدّس موجود في المدينة منذ سنوات، وقد يكون ذلك من الأمور الطبيعية بين بعض الأفراد، وإن لم يظهر ذلك على السطح ولا يتم نشره علناً، احتراماً للمجتمع أو تحسّباً من نظام المؤسسة الدينية، إلا أن انتشاره وظهوره بشكل علني في القرية وفي الريف هو ما يلفت النظر ويستحق القراءة والرصد والتسجيل.
أختارُ هنا مفردة (الجرأة)، وأرى أنها الكلمة المعبّرة لما يجري، لأن الدين في القرية يكون أكثر تأثيراً في جميع الأفراد، وهو الذي يحكم معاملاتهم الدنيوية، بل هم يتحركون من خلاله في جميع شؤونهم الحياتية، وبذلك يكتسب رجل الدين احتراماً وثقة كبيرين تصلان به حدّ القداسة، وعندما يأتي النقد أو التمرد أو عدم الامتثال من شباب في مقتبل العمر،
ذلك هو ما أعني به الجرأة، وليست الجرأة هنا الخارجة عن الأخلاق والتي هي ضد الاحترام، وليست الجرأة في التفكير والتعبير، بل في نشر التعبير علناً والذي قد يكون تحدياً، التعبير المتكئ على المعلومة التي يمتلكها ذلك الشاب، أو ما يسميه حرية التعبير، سواءً أقنعت تلك المعلومة رجل الدين أم لم تقنعه، إلا أن الشاب قادرٌ على أن يقولها في حوار مباشر أو يكتبها كتغريدة في تويتر أو ينشرها في الواتساب أو يصرح بها في سناب شات.
تلك المعلومة التي أتاحت للفرد أن يبني رأيه ويناقش من دون خوف أو قلق أو خشية من عقاب رجل الدين في القرية أو من والده أو أحد من أوصياء المجتمع، مواجهة رجل الدين في حدّ ذاته هو الجرأة التي أقصدها هنا، المتمثّلة في تحطيم الحاجز وتخطي السياج وتلاشي المسافة الفاصلة التي كانت قائمة منذ قرون بين رجل الدين وبين الآخر، التي لم يجرؤ أحد على تخطيها أو حتى الاقتراب منها.
رجل الدين وجدّ نفسه أمام مسؤولية كبيرة، ليست في توعية المجتمع من على منبره، بل في النقاش مع بعض الشباب منفردين، مسؤولية تكاد تثقل كاهله، لا سيما لرجل الدين الذي لازال يتحرك بالطرق التقليدية في النصح والإرشاد والموعظة، تلك الطرق التقليدية التي تجرفها وسائل التقنية في سيلها العارم الذي لا يستطيع رجل الدين أن يواجهها بمفرده ولا بالكلمات والخطب والمواعظ ، وليس رجل الدين وحده،
بل الأسرة والمؤسسة والمجتمع، فقد انفلتَ الرسنُ من يد الفارس ولن يُحبس الحصان في الحظيرة. أخذت التقنية تنزع القداسة عن كل ما هو مقدّس في المجتمع ،وراح الجيل الحالي يتساءل عن مصدر تلك القداسة، التي تنكشف له أن بعضها عادات قديمة مورست في مرحلة معينة من تاريخ المجتمع، وأنه حان الوقت لأن تتبدد وتتلاشى، فقد أرهقت أفراد المجتمع بما يكفي، وعطّلت حركته وتقدمه.
وربما سيفقد رجل الدين ذلك الاحترام والهيبة الذي يحفّه به المجتمع، وكان لزاماً عليه أن يفكر بطريقة معاصرة ويعبّر بوسائل حديثة، تفادياً للسنوات المقبلة التي ربما ستكون أكثر جرأة، حين يركب الشباب قوارب التقنية ويبحرون بها داخل بحر المجتمع. سيفقد مكانته ليس بسبب شخصه أو لأنه رجل دين، فقد سبقه المعلم والمثقف والإديب، بل لأن الكلمة آخذة في التراجع عن مكانتها وعن سلطتها التاريخية،
فقد أخذت الصورة تزاحم الكلمة على عرشها، وفي السنوات القليلة المقبلة ستتصدر الصورة واجهة المشهد كاملاً، والصورة لا يحتكرها أحد، كما هو حال الكلمة التي تحتاج إلى وسيط للشرح والتوضيح، الكلمة التي كانت لقرون طويلة في يد الخطباء والمعلمين والأدباء والمثقفين والمتحدثين والكتّاب والإعلاميين.
الصورة ملكية عامة، متاحة وسهلة وحاسمة. الصورة هي التي أتاحت لهذا الشاب أن يتحدث، أن يقول ويعبّر ويصرح، إنسان هذا العصر وجد نفسه متساوياً مع جميع أقرانه، بل مع جميع سكان الأرض، الجميع سواسية كأسنان المشط، تلك السواسية التي تمنحها الأديان للناس، ولكن يمنعها الأوصياء وعلية القوم أن تكون عامة للناس، جاءت التقنية لتفتح الأبواب وتشرّع النوافذ لتعطي الفرصة متساوية لكافة البشر، لكل إنسان ليعبّر ويقول ويناقش ويرفض ويسمع ويرى دون حاجب أو حارس.
السلطة اليوم لمن يعرف كيف يستخدم التقنية بمهارة لتحقيق مصالحه وللتعبير عن آرائه وتوجهاته، مهما كانت مصالحه وآراؤه، فقد رمى حراس البوابة أسلحتهم واستسلم أوصياء المجتمع والآباء والمعلمون. هو صراع بين فئات المجتمع، هذه هي سمة العصر الذي نعيشه، صراع متساوٍ بين الناس،
صراع الحصول على المعلومة، فمن يمتلك المعلومة، ويعرف كيف يوظفها ستكون له الغلبة. هذه الجرأة ظهرت بشكل جلي في العام 2016 ولكن تم التمهيد لها منذ العام 2005م حين بدأت الصورة تكون في متناول الجميع، حيث الصورة الأقدر على التعبير بوضوح دون وسيط أو شرح أو تفسير أو تزييف أو مونتاج.
21/1/2016
جعفر عمران