كانت يدي تحتضن شاشة صغيرة هي نافذة لكل العالم من خلالها استطيع التحدث مع أصدقائي وأمزح وألعب واقرأ الجديد. أتذكر ان ابنتي كانت تهزّني بقوة لأتجاوب معها وأصطحبها إلى أي مركز تسوق لشراء دمية جميلة وقطعة شيكولاته لن تكلفني مبلغاً من المال بقدر تكلفة قدمي لتخطو بضع خطوات أحقق فيها رغبة طاهرة من طفلة بريئة كـ ابنتي..
لكنني لا أعيرها اهتماما، فأنا كُنت مشغولاً بأحاديث كثيره مع أصدقائي وماطلت في تلبية رغباتها وحاجاتها كثيراً. وفي بعض الأيام تطلب مني زوجتي القيام بأمور مهمه في المنزل، أو الخروج معي لنزهة عائلية، فكنتُ أتذمر وأرى فيها المرأة الحنّانه التي لاتنتهي طلباتها ..فأنا لستُ إلا إنسان محتاج الى الراحة والترفيه مع الأصدقاء وبين الشاشات.
ألاتفهمين ياامرأة؟!!
أنا شخص مهم في صفحات التواصل الإجتماعي، فلابُد أن تتقبلي انشغالي وعدم قدرتي على إعطائكم كل ماتأملونه مِنّي …
كانت أمي ايضاً تدعونا على وجبة طعام شهية، تجلس بجانبي وأبي بجانبي الآخر. بصراحة .. لاأتذكر أحاديثهما ولا اتذكر فيما كانت تنصب اهتماماتهما، فأنا مشغول بنافذة العالَم الصغيرة المليئة بالأرواح والاشباح!! وآخر ما أتذكره قُبلة ابنتي لي وأنا على عجل اريد اللحاق بأصدقائي في الإستراحة لمتابعة مباراة مهمة ..
لقد فاتتني الخمس الدقائق الأولى، سأتابع الأحداث وانا أقود السيارة الى إن أصل… أتذكر ايضاً صوت الإسعاف وتمتمات بشرية قبل أن ألفظ انفاسي الأخيره …
والآن …
اصبحتُ في حُفرة ضيّقة، منقطع عملي من الدنيا، أنظر الى صحيفة أعمالي خالية من العطاء … من الحُب .. من العمل
وماذا عن أخبار العالم بعد رحيلي؟؟؟
طلبتُ رخصة شرعيه من أحدهم في قبري كي يريني هذا العالم بعدي.. وفعلاً حقق لي رغبتي فألقيت نظرة على صفحات التواصل فرأيتُ إعلان وفاتي ضمن الاعلانات القديمه المحشوه بكلمة “إنا لله وانا اليه راجعون” وسورة الفاتحه مُكرر إعادة لصقها، لم أرى رياحينها جائتني لأنها لم تُقرأ باللسان. وعادت الحياة طبيعيه وأصدقائي مازالوا مجتمعين في الاستراحه لمشاهدة المباراة الاخيرة من الدوري متمنين أنني كنت معهم،
لكن الموت أسرع.. ياله من مسكين… ذهبت الى ابنتي، فقد اشتقت إليها كثيراً، رأيتها تحتضن آخر لعبة اشتريتها لها قبل سنتين، مرددة: “أُريد أبي، إرجعوا لي عيدي .. ” وترفع رأسها الصغير لتخاطب الله بعفوية الطفوله: ” ربي اجعل أبي في الجنة” ودموعها جمرات تحرق قلبي وتشعله بالحسرات رأيت أمي ايضاً تبكي كل ليله على سجادة الصلاة، وتدعو لي بالراحة والسعادة الأبدية.
وزوجتي أصبحت أرمله متشحة بثوب الحداد، قد خصصت لي أعمالا وصلوات لتهديها لي حتى لا ينقطع رباط الحُب بيننا ..
آآه .. كم كنت عارياً من مشاعر الحب والعطاء مع عائلتي!!
كم كنت اعمى لاأرى تضحياتهم وعطائهم وحبهم لوجودي بينهم!!
أرغب الآن باللعب مع ابنتي وإسعاد قلبها الصغير.
أشتهي ايضاً الإستماع لأحاديث أمي وحكايا أبي.
لكن.. جائني الموت فجأة قبل أن أعطي عائلتي حُباً واشرع لهم أجنحة السعادة. احتضنني التراب قبل أن احتضن ابنتي وأُمازح أخي وأُعطي زوجتي من وقتي. قبل ان أدرك ان السعادة هي العطاء لمن حولي، الذين هم بحاجة الى وجودي في كل تفاصيل حياتهم..
” رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ”