
لا يخفى على أحد أن الأسرة تلعب دورا مهما في حياة الإنسان الفردية والاجتماعية، وعلى جميع الأصعدة والمستويات،ولها الأثر الأكبر في توجيهه نحو الخير أو الشر،والأخذ بيده إلى حيث السعادة أو الشقاء.
بل الأسرة هي شريان الحياة، وسر البقاء..فلا يمكن للحياة أن تستمر من دون الأسرة،التي لها الدور الأكبر في حفظ النوع الإنساني، وإنقاذ الجنس البشري من الفناء.
وإن الذين يعادون الأسرة، ويطالبون بإلغائها من قاموس الحياة،إنما هم ـ في الحقيقة ـ أعداء الإنسانية، ووحوش الغاب،الذين لا يهمهم إلا الظفر بفريستهم، والجري وراء إشباع غرائزهم ونزواتهم الحيوانية عن أي طريق كان،ومهما كان الثمن باهظا ومكلفا.وحتى إن كان على حساب القيم الفاضلة، والأخلاق الكريمة,وتترتب عليه كل المصائب والمشكلات.
يقول عباس العقاد : (…فمن عادى الأسرة فهو عدو النوع الإنساني في ماضيه ومستقبله، ولا يعادي الأسرة أحد إلا تبينت عداوته للنوع الإنساني من نظرته إلى تاريخ الأجيال الماضية،كأنه ينظر إلى عدو يضمر له البغضاء،ويهدم كل ما أقامه من بناء.
وما من سيئة تحسب على الأسرة ـ بالغة ما بلغت سيئاتها من الكثرة والضرر ـ مسوغة لمحب بني الإنسان أن يهدم الأسرة من أجلها، ويعفي على آثارها.
فحب الأسرة ـ حقا ـ سول للناس كثيرا من الجشع والأثرة، ومن الجبن والبخل، ومن الكيد والإجرام،وكذلك حب الإنسان لنفسه قد فعل هذا في العالم الإنساني وزيادة،ولكننا لا نمحو الإنسان، ولا نمحو الأسرة،من أجل الأثرة وأضرارها،وإنما نمحو الأثرة ما استطعنا، ونوفق بينها وبين الإيثار غاية ما يستطاع التوفيق، ونفلح في ذلك مع الزمن، لأننا أفلحنا كثيرا في تعميم روابط الأسرة الصغيرة بين أبناء الأسرة الكبيرة،وهي الأمة)
بل لا يمكننا ـ واقعا ـ أن نمحو الأسرة،وليس في استطاعتنا أن نقضي عليها مهما فعلنا، ومهما حاربناها، ودعونا إلى إلغائها من قاموس الحياة،ذلك أن الميل إلى تكوين الأسرة ميل فطري، أو قل هو حاجة فطرية لا يمكن للإنسان أن يستغني عنها،أو يتخلص منها أبدا وعلى الإطلاق.
وللتوضيح نقول : إن حاجات الإنسان تنقسم إلى قسمين :
?حاجات فطرية.
? حاجات غير فطرية.
والفرق بين القسمين أن الحاجات الفطرية،لا يستطيع الإنسان الاستغناء عنها،أو التخلص منها،أما الحاجات غير الفطرية فيمكنه الاستغناء عنها،أو التخلص منها إن كان قد ابتلي بها.
فالحاجات غير الفطرية هي العادات التي عود الإنسان نفسه عليها،وهو يستطيع أن يتخلص منها متى أراد وعزم على ذلك،كما هو الحال في من يعود نفسه على التدخين، أو الإكثار من شرب الشاي،أو إدمان المخدرات،أو التعود على النوم على نوع خاص من الموسيقى…فكل هذه الأمور وما هو على شاكلتها،تعتبر من الحاجات غير الفطرية،وإنما عود الإنسان نفسه عليها،إلى أن أصبحت حاجة فطرية ثانوية بالنسبة له،وفي قدرته أن يستغني عنها،أو يتخلص منها إن كان قد ابتلي بها،كما أنه يستطيع أن يربي الأجيال القادمة بعيدا عنها،دون أن يؤثر ذلك سلبا على حياتهم.
أما الحاجات الفطرية،فهي التي فطر الله الناس عليها، بحيث أن الإنسان ـ مهما فعل وحاول ـ لا يستطيع أن يستغني عنها،ولا يمكنه التخلص منها،ومن ذلك عشق الإنسان للجمال في الفن،والخير في الأخلاق، والحق في العلم،والبعد الروحي في الدين والإيمان.
والحق أن الميل إلى الأسرة هو شعبة من شعب ميل الإنسان وحبه وعشه للخير في الأخلاق ،وهو ـ كما قلنا ـ ميل وعشق فطري،لا سبيل للانفكاك عنه،مما يترتب عليه أن الميل إلى تكوين الأسرة هو ميل فطري،ومما جبل الإنسان عليه،ولا يستطيع الاستغناء عنه،او الخلاص منه.
فكل إنسان ـ وبغض النظر عن عقيدته،ومذهبه،ولغته، ومنطقته الجغرافية، ومستواه العلمي، ومنصبه الوظيفي،ومكانته الاجتماعية ـ يميل ميلا فطريا إلى أن يكون لنفسه أسرة خاصة، ويختص ببيت، وزوجة (إن كان ذلك الإنسان ذكرا) أو زوج (إن كان أنثى) وأن يكون له أولاد وذرية ينحدرون من صلبه، وينتسبون إليه.
ولأن الميل إلى تكوين الأسرة هو ميل فطري،ومما جبل عليه الإنسان،فقد فشل النظام الشيوعي في تطبيق قانون إلغاء الأسرة،ومحاولة القضاء على النظام العائلي.
كما أن أفلاطون ـ وهو ينظر ويؤسس لمدينته الفاضلة ـ اقترح مثل هذه الفكرة، وخصصها في طبقة الحكام والفلاسفة،حيث أباح لهم العلاقات الغير مشروعة، باعتبار ذلك ـ حسب رأيه ـ الطريق الوحيد،والحل الأمثل للقضاء أو الحد من تصرفاتهم الشخصية غير السوية،ولكن المجتمع رفض هذه الفكرة،بل إنها ـ إضافة إلى آراء أخرى لأفلاطون ـ ولدت النقمة الاجتماعية عليه، إلى حد أن كادوا أن يبيعوه في سوق الرقيق،لأنها آراء مخالفة لما جبلوا وفطروا عليه.
بل أن أفلاطون نفسه ندم على ذلك أشد الندم،حين تجلت له الآثار السيئة، والعواقب الوخيمة المترتبة على فكرة إبادة النظام العائلي، وإلغائه من حياة الناس.
كما ظهرت الدعوة إلى إلغاء النظام العائلي،والقضاء على الكيان الأسري في القرن التاسع عشر،وبداية القرن العشرين،ولكن كان نصيب هذه الدعوة نصيب كل الدعوات السابقة لها، والمتقدمة عليها في محاربة الأسرة وكيانها العظيم،وهو الفشل الذريع،وعدم التقبل لها من قبل المجتمعات البشرية، لأنها خلاف ما فطرهم الله عليه وأودعه في أعماق أنفسهم من الميل إلى الأسرة.
لذلك نحن نعيد قولنا ونؤكده من أنه لا يمكننا أن نلغي الكيان الأسري،ولا أن نقضي عليه، ولا نستطيع محوه من صفحة الوجود، حتى ولو كان بعضنا لبعض في ذلك ظهيرا، ومهما كانت محاولتنا في ذلك جادة وكبيرة.
وكيف نستطيع أن نقضي على هذا الكيان الشامخ،أو نلغيه من الحياة،والأمر ـ كما يقول العقاد ـ : (لا أمة حيث لا أسرة،بل لا آدمية حيث لا أسرة)
ولأن حجر الأساس في بناء الأسرة وتكوينها هو الزواج، فقد أولى الإسلام موضوع الزواج عناية خاصة،واهتم به اهتماما بالغا،وصل إلى حد أن يقول النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم : (ما بُني بناء في الإسلام بناء أحب إلى الله من التزويج)
والأحاديث في فضل الزواج، وبيان أهميته،وآثاره الإيجابية الكبيرة في حياة الإنسان،تكاد لا تحصى كثرة، وما أعرضنا عن ذكرها،إلا لأنها أكثر من أن تحصر، وأشهر من أن تذكر.
✨الأسرة في اللغة :
الأسرة والعائلة بمعنى واحد، وقد وردت تعريفات كثيرة للأسرة كلها تصب في قناة واحدة،أي أنها تختلف في التعبير وتتحد في المعنى.
فقد عرفها “نمكوف” بأنها تتكون من الزوج والزوجة والأطفال،وقد تتمتع بصفة الديمومة والبقاء،وتتكون من الزوج والأطفال،أو من الزوجة والأطفال,وذلك في حال الوفاة أو الطلاق.
ويرى ابن منظور أن أسرة الرجل عشيرته ورهطه الأدنون،لأنه يتقوى بهم، والأسرة عشيرة الرجل وأهل بيته.
كما عرفها بعض الباحثين الاجتماعيين بأنها رابطة اجتماعية تتكون من زوج وزوجة وأطفالهما،وتشمل الجدود والأحفاد وبعض الأقارب على أن يكونوا مشتركين في معيشة واحدة.
✨ الأسرة في القرآن :
والأسرة في المفهوم القرآني لا تختلف عن هذه التعريفات، وقد أشار إلى ذلك الحق في قوله سبحانه وتعالى : (والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة…)
فالأسرة وفق هذه الآية الكريمة تتكون من الزوجين والأبناء والحفدة.
والحفدة هم الأعوان والخدم والأصهار وأولاد الأولاد،وإن كان الأشهر عند المفسرين أن الأحفاد هم أولاد الأولاد.
يقول القرطبي : (ما قاله الأزهري من أن الحفدة هم أولاد الأولاد,هو ظاهر القرآن بل نصه،ألا ترى أنه قال : (وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة) فجعل البنين والحفدة منهم.
قال القرطبي : وقال ابن العربي : (والأظهر عندي في قوله “بنين وحفدة” أن البنين أولاد الرجل لصلبه، والحفدة أولاد ولده،وليس في قوة اللفظ أظهر من هذا، ويكون تقدير الآية على هذا : وجعل لكم من أزواجكم بنين،ومن البنين حفدة)
ولعله بناء على ما ذكرناه ذهب البعض إلى أن الزواج الذي لا يصحبه ذرية لا يسمى أسرة.
✨ أنواع الأسر :
نستطيع أن نقسم الأسر من حيث الشكل إلى ثلاثة أقسام على النحو التالي :
? القسم الأول : الأسرة المركزية.
وهي التي تتكون من الزوجين وأولادهما وأحفادهما، أو حتى من غير الأولاد والأحفاد على رأي من يذهب إلى أن الأسرة من الممكن أن تتكون حتى من الزوجين فقط.
?القسم الثاني : الأسرة المركبة أو المزدوجة.
وهي التي تتكون من أسرتين أو أكثر،سواء كانت تلك الأسر من الأقارب أو غيرهم.
?القسم الثالث : الأسرة الممتدة.
وهي التي تتكون من عدد من الأسر الفردية على صلة من القربى،وهي ـ عادة ـ تتكون من الأسرة الفردية للرجل وأبنائه،أو الأسرة الفردية للمرأة وأبنائها، شريطة أن يعيشوا في مسكن واحد,أو عدة مساكن متقاربة.
وكل إنسان ـ مهما ارتفع قدره ـ يعيش في نوعين من الأسر
? الأسرة التوجيهية.
وهي التي ينشأ ويتربى فيها، وتتكون من الوالدين والأخوة والأخوات.
✨ أسرة التناسل.
وهي التي يتزوج فيها, وينجب منها ذريته.
وللحديث بقية ?