قال الله تعالى :[JUSTIFY]وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ ۙ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَٰذَا أَوْ بَدِّلْهُ ۚ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي ۖ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ ۖ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) . [سورة يونس 15] .
تحكم بعقل قريش -المناهضين للدعوة النبوية- المنطق التبريري والدفاعي ، في مقاومة التغيير الذي كان يحدثه فيهم النبي (ص) .
وتبعا لهذا ، كانوا يجادلون ليحافظوا على موروثهم في التفكير والتقليد والتقديس ولم يعطوا أنفسهم فرصة للتفكير خارج إطار مألوفهم ؛ بل أخذوا يطالبون النبي (ص) بأدلة يسقطون عليها من مقاييسهم وأهوائهم ، دون النظر والتأمل في قابلية المطالبات للعقل . وهذا السلوك كشف عن مستوى انهزامهم الفكري والنفسي ، وأظهر ضعف منطقهم أمام الأدلة والبراهين التي حملها القرآن .
وفي ضوء الآية نجد أنها حددت بدقة المنطلق الذي كان يحرك هذا السلوك المنهزم ؛ وهو نكرانهم اليوم الآخر (أحد المضامين الأساسية للقرآن) . فأخذوا يطالبون بقرآن لا ينتقد آلهتهم ولا عقائدهم ولا سلوكهم ولا عاداتهم ، لأنهم يريدون مضامين تتوافق مع تقاليدهم وموروثاتهم أو أن يبدل – على الأقل – الآيات التي تنتقد آلهتهم إلى ما يتوافق مع منطقهم الموروث .
يقول الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير الأمثل متحدثا عن الفرق بين المطلبين :” والفرق واضح بين الاثنين -ففي الطلب الأوّل : كان هدفهم هو اقتلاع وجود هذا الكتاب تماماً ليحل محله كتاب آخر من طرف النّبي (ص) أمّا في الطلب الثّاني : فكانوا يريدون -على الأقل- أن تبدل الآيات التي تخالف أصنامهم حتى لايشعروا بأي ضيق وانزعاج من هذه الناحية ” . (تفسير الأمثل سورة يونس) وبتأمل عميق في الآية ، نستنتج أن الدافع وراء هذا الجدل العقيم هو عدم إيمانهم بالآخرة وسخريتهم بها ؛ وهذا صرحت به الآية ، وقد تفرع من عدم الإيمان بها تكذيبهم للنبي في نبوته ومعجزته (القرآن) . فالموقف المسبق من المنظومة العقائدية ، جعلهم يتمسكون ما ألفوه وينكرون ما أتى به النبي (ص) دون النظر والتأمل .
وهذا الموقف – لو تأملنا أكثر – ناتج عن خلل في الناحية المعرفية لعقولهم ، فهم قد سيطر المنحى الحسي على عقولهم ، وتنمطت مسارات تفكيرهم بما اعتادوا عليه وسمعوه ورأوه فوجدوا أنفسهم تابعين مقلدين موروثهم لا عن تفكير أو دليل
وظاهرة النبوات تريد تغيير هذا النمط من التفكير -الذي هو في الواقع – لا يستند الى قوة منطق عقلي أو طريق استدلالي ويمكننا إيجاز حالتهم تلك بكلمة ؛ هي :
(موقفهم من الغيب) فهم قد حصروا منابع المعرفة بالحس وما يتبعه من تفكير نمطي سطحي ولكي نتعرف الى معنى الغيب الذي أنكر مصدريته هؤلاء ؛ نأتي إلى اللغة .
قال الراغب الاصفهاني :” الغيب : استعمل في كل غائب عن الحاسة، وعما يغيب عن علم الإنسان بمعنى الغائب ، قال : (وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين) [النمل/75]ويقال للشيء : غيب وغائب باعتباره بالناس لا بالله تعالى فإنه لا يغيب عنه شيء (…)
وقوله : (ويقذفون بالغيب من مكان بعيد) [سبأ/53]، أي: من حيث لا يدركونه ببصرهم وبصيرتهم ” . (مفردات القرآن)
وقد تمثل الغيب هنا بالوحي الذي هو واسطة الفيض الإلهي على أنبيائه فبسبب جهلهم بهذا الطريق ، وصدهم عن التعرف عليه ؛ لجأوا لهذا الإنكار الذي اتخذ عدة صور من السخرية واللجاج والتبرير .
ومتى ما أردنا معرفة مدلول مفردة (الوحي) ، سنجد أن ” أصل الوحي : الإشارة السريعة . ولتضمن السرعة قيل : أمر وحي ، وذلك يكون بالكلام على سبيل الرمز والتعريض ، وقد يكون بصوت مجرد عن التركيب ، وبإشارة ببعض الجوارح ، وبالكتابة. (…) ويقال للكلمة الإلهية التي تلقى إلى أنبيائه وأوليائه : وحي ” . (مفردات القرآن للراغب الاصفهاني ) .
وقد أضاف ابن فارس دلالة أخرى في كتابه مقاييس اللغة ؛ قال :” وحي : أصل يدل على إلقاء علم في إخفاء أو غيره إلى غيرك … ” وبالجمع بين المعنى اللغوي والاستعمال القرآني لمفردة الوحي ، نستطيع القول بأن الأصل في المادة – كما قد استنتجه العلامة المصطفوي- :
” هو إلقاء أمر في باطن غيره ، سواء كان الإلقاء بالتكوين أو بإيراد في القلب ، وسواء كان الأمر علما أو إيمانا أو نورا أو وسوسة أو غيرها ، وسواء كان إنسانا أو ملكا أو غيرهما وسواء كان بواسطة أو بغير واسطة . ويفيد العلم واليقين ” (التحقيق في كلمات القران المصطفوي ج14ص59) .
أما عن مفهومه في الاصطلاح القرآني ، فعرفه الشيخ السبحاني :” الوحي الذي يختص به الأنبياء : إدراك خاص متميز عن سائر الإدراكات ؛ فإنه ليس نتاج الحس ولا العقل ولا الغريزة (التكوين) ، وإنما هو شعور خاص يوجده الله سبحانه في الأنبياء لا يغلط معه النبي في إدراكه ، ولا يشتبه ولا يختلجه شك ولا يعترضه ريب ؛ في أن الذي يوحي إليه هو الله سبحانه ، من غير أن يحتاج الى إعمال نظر أو التماس دليل أو إقامة حجة (…)
فالوحي حصيلة الاتصال بعالم الغيب ، ولا يصح تحليله بأدوات المعرفة المعتادة (كنظرية النبوغ) … ” (محاضرات في الإلهيات السبحاني ص268) ومشكلة قصر مصادر المعرفة ، لم تكن مشكلة قريش فقط ؛ إنما هي مشكلة عامة للبشر .
فقد ذكر الشيخ الفضلي في كتابه (أصول البحث) أن دارسي نظرية المعرفة من علماء البحث والمناهج حصروها في مصدرين هما : الحس والعقل
وذكر أنهم استبعدوا الفكر الديني أو المعرفة الدينية ولسد هذا النقص في مجال دراسة المعرفة ، ربع الشيخ المصادر : الوحي والإلهام والعقل والحس ويمكن لنا تثنية التربيع الذي قدمه الفضلي : العقل الحسي والغيب الإلهي فيكاد يكون الحس والملاحظة والتجريب طاغيا على الدراسات العلمية والجدليات القديمة للبشر عامة
ولأن ظاهرة النبوات من الظواهر التي ترافقت مع وجود البشر ، فلا بد من سد نقص مصادر المعرفة بذكر طريق الوحي والارتباط بالغيب ؛ وبذلك نكون قد استوعبنا منهجيا الطرق المعرفية المتاحة للبشر .
وهذا التقسيم المنصف يدلنا على أن طريق الحس والتجريب والعقل النظري لا يغطي كل جوانب الإنسان .
وحينما يطرح القرآن طريق الوحي والغيب الإلهي إنما ليسد عجز الطريق الحسي والعقل النظري ويكشف للإنسان طريقا آخر خارج حدوده الضيقة .
والقرآن لا يهدف إلى إلغاء الحس والتجريب أو العقل النظري والاستدلالي بل يؤكد عليهما وفي الوقت ذاته يبين قصور الحس والتجريب عن استيعاب أنواع أخرى من المعرفة .
وطريق الوحي والغيب لا يناقض العقل النظري بل يتماشى ونظام التفكير البشري ويثبت بأن الحس والتجريب كمصدر لا يفسر كامل التجربة البشرية وطرق المعرفة بل لا بد من وجود مصدر أرفع وأرقى وأرسخ يقينا وبه يصل العقل البشري لكمالاته .
وهذا ما وقع فيه قريش حينما طالبوا النبي (ص) تبديل القرآن أو بعضه ؛ ظنا منهم أنه هو الذي ألف القرآن . بينما كان رده -كما دلت الآية- :
أنا في ذلك مأمور بتبليغ هذه الرسالة واتباعها ؛ لأني أتلقى وحيا من الله ، وعندي يقين راسخ وإيمان ثابت أن الحقيقة كامنة في القرآن وأن من العقل لكي تبلغ البشرية كمالها وسعادتها لا بد أن تتلقى معارفها الأساسية من لدن حكيم عليم لا أن تقدم التجربة البشرية الناقصة قبال المعرفة الإلهية .
وهل من العقل أن يترك من تيقن أنه الحق والكمال ، ليستبدل طريقه بأباطيل ونواقص وأوهام ملفقة ؟!
[/JUSTIFY]
بقلم / عيسى مبارك الربيح – الطرف