[JUSTIFY]يقول الله عز وجل في محكم كتابه المجيد،وبيان خطابه الحميد : (ألم نشرح لك صدرك) لا شك أن الله عز وجل خصّ نبيه المصفى بالكثير من الآلاء والنعم والفضائل والمناقب والمآثر والمكرمات،وهو سبحانه وتعالى في هذه الآية في معرض الامتنان على رسوله الأمين بنعمة (شرح الصدر) التي إن لم تكن هي أعظم نعمة أنعم بها عليه،فلا شك أنها من أعظم النعم الإلهية والمواهب الربانية.
الشرح في اللغة :
الشرح لغة يعني : البسط والتوسعة.
ومنه تشريح اللحم،أي توسعته وترقيقه،وشرح غريب الحديث،أي التوسع في بيان معانيه،وشرح القرآن،بمعني التوسع في فهم آياته وبيان معانيها.
معنى شرح صدر النبي، وأسبابه :
كذلك شرح صدر النبي،هو بمعنى توسعته وبسطه، ليتمكن رسول الله صلى الله عليه وآله من فهم واستيعاب مفاهيم الرسالة والمعارف الإلهية العميقة، وليستطيع أن يتلبس الرسالة،وتكون لديه القدرة على الدعوة إليها،فلا يضيق بها صدره.
ذلك أن الرسالة الإلهية ثقيلة جدا جدا،سواء في فهم معانيها ومعارفها،أو في التلبس بها والعمل بمقتضى أحكامها وقوانينها أو في دعوة الناس إليها، كما يشير إلى ذلك الحق سبحانه وتعالى في قوله عز وجل:إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا)ولهذا اقتضت الحكمة الإلهية أن يشرح الله صدر رسوله ويوسعه،ليستوعب هذه الرسالة المقدسة بكل أبعادها.
ولا بأس أن نتوسع قليلا في شرح هذه المفاهيم الثلاثة في توسعة صدر رسول الله :
@ فهم مضامين الدعوة.
@ التلبس بالدعوة.
@ الدعوة إليها.
شرح صدر النبي ليستوعب علوم الرسالة ومضامينها :
إن العلوم والمعارف إذا كانت دقيقة وعميقة،وفوق مستوى العقل،يضيق بها الإنسان ذرعا،ولا يتمكن من تحملها،وربما أصيب بالعقد النفسية بسببها وهذا ما نراه واضحا وجليا،حتى في واقعنا المعاش،إذ طالما رأينا أناسا وقرأنا وسمعنا عن آخرين،أنهم أصيبوا بالهلوسة والأمراض العصبية والنفسية،بل والجنون،بسبب قراءتهم لكتب فلسفية أو عقائدية أو فكرية…أو غيرها من الكتب والمؤلفات العميقة الدقيقة،التي هي فوق مستوى إدراكاتهم العقلية ،وقدراتهم الذهنية.
وإذا كان هذا هو الحال في عامة الكتب،التي هي من تأليف البشر،فما بالك بالمعارف الإلهية،والعلوم الربانية،التي يتضمنها القرآن الكريم،والتي تحوي كل علم،ولا تقف عند حد والذي فيه تبيان كل شيء، إما تفصيلا،وإما إجمالا ولا شك أنها علوم عميقة جدا،بل أن كلمات الله من فعله وقوله،لا حد لها ولا انتهاء،وقد قال القرآن الكريم عنها : (قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي،ولو جئنا بمثله مددا)
فلو تحولت كل البحار ومثلها معها إلى حبر ومداد،واستعنا بها في شرح كلمات الله عز وجل ،لنفدت البحار،دون أن نستطيع بيان تلك الكلمات وشرح معناها وإذا كان الحال كذلك، فيستحيل لهذا العقل المحدود أن يدرك كلمات الله ويستوعبها،بل أن الإنسان سيضيق صدره بها،ما لم يتحصل على المدد الغيبي،ويقوم الله عز وجل بتوسعة صدره، لفهم واستيعاب وتحمل تلك المعارف والعلوم،التي تنطوي عليها تلك الكلمات الإلهية المقدسة.
ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله بحاجة إلى أن يشرح الله صدره، ويوسعه ليفهم صلى الله عليه وآله رسالة ربه، ويتحمل علومها العميقة، ويستوعب معارفها الدقيقة ،فلا يضيق بها صدره ولأن الله عز وجل شرح صدر النبي،استطاع عليه وآله أفضل الصلاة وأزكى السلام أن يستوعب كل تلك العلوم،وأن يفقهها،ولا يضيق بها،رغم أنها بلغت من الكثرة إلى حد أن يعلم النبي صلى الله عليه وآله، أمير المؤمنين عليه السلام ألف باب من العلم يفتح له من كل باب ألف باب! وأي إنسان يستطيع أن يحوي كل هذه العلوم ويفقهها ويتقنها ويعلمها للآخرين،ما لم يكن مؤيدا من الله تبارك وتعالى بشرح الصدر وتوسعته، ليستوعب كل علم مهما كان دقيقا وعميقا؟!هذا مختصر القول في ما يتعلق بشرح صدر النبي صلى الله عليه وآله،ليفقه الرسالة الإلهية العظيمة، ويستوعب علومها.
شرح صدره ليتمكن من التلبس بالدعوة :
وكما أن الرسالة الإلهية ثقيلة في علومها ومعارفها فلا يتمكن الإنسان من حملها إلا بشرح صدره من قبل الله عز وجل،كذلك هي في التلبس بها والعمل بأحكامها.فالعمل وفق تعاليم الرسالة،والتجسيد العملي الكامل لكل أحكامها،ليس من السهل اليسير،الذي يكون في استطاعة كل أحد أن يلتزم به طوال حياته دون أن يضيق بذلك صدره ويشعر بالسأم والتعب والكلل والملل.وقد قال الله عز وجل عن ثقل القرآن وعظمته : (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله)
فإذا كانت الجبال الرواسي لا تتحمل هذا القرآن العظيم لعظمته وثقله، فكيف يتحمله هذا الإنسان الضعيف،ويسير على ضوء تعاليمه ودساتيره،ولا يشذ عنها ولو بمقدار شعرة،ما لم يكن ذلك بلطف إلهي يشمله الله عز وجل به؟!فإن الإنسان يملك مجموعة من الغرائز القوية جدا، التي قد ينساق معها إلى حد أن تدفعه حتى إلى الكفر بالله،والتكذيب بالبعث والمعاد
،كما يقول سبحانه : (كلا بل يريد الإنسان ليفجر أمامه، يسأل أيان يوم القيامة) ومفاد هذه الآية الكريمة، هو أن الإنسان يملك مجموعة من الغرائز القوية ،التي تتفجر في نفسه كالبراكين والزلازل،وتدعوه إلى تلبيتها وإشباعها، فينساق وراءها بدون وعي ،حتى إذا ما قال له أحد : اتق الله،واخش يوم القيامة والحساب.
سأل ساخرا مستهزئا : أين يوم القيامة الذي تتكلمون عنه وتخوفوننا به؟!فالالتزام بتعاليم الإسلام، والتطبيق العملي لأحكام الشريعة،يحتاج إلى جهاد كبير للنفس الإنسانية، وتربية جادة لها على العفة والطهارة والفضيلة،وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله،لقوم رجعوا من سرية حربية : مرحبا بقوم قضوا الجهاد الأصغر،وبقي عليهم الجهاد الأكبر.
وحين سألوه صلى الله عليه وآله مستغربين : أهناك يا رسول الله ما هو أكبر من الجهاد في سبيل الله عز وجل؟! أجابهم عليه وآله أفضل الصلاة،وأزكى السلام : بلى،،،جهاد نفسك التي بين جنبيك. إذن فالتمسك بتعاليم الدين يحتاج إلى جهاد كبير للنفس،ومحاربة جادة للشهوات والغرائز،والنبي الأعظم مطالب بتطبيق أحكام الشريعة أكثر من أي أحد،وأن يستقيم على الصراط المستقيم في كل شؤونه الدينية والدنيوية على السواء،بل هو صلى الله عليه وآله أولى بالالتزام والتطبيق من كل أحد،كما أنه عليه وآله السلام يختص بتكاليف أخرى
كبيرة،ليست مطلوبة من أمته،ومنها عل سبيل المثال : وجوب قيام الليل بصورة مستمرة طيلة حياته الشريفة،كما يدل على ذلك قوله عز وجل : (يا أيها المزمل،قم الليل إلا قليلا، نصفه أو انقص منه قليلا، أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا)وهذا تكليف إلهي له،بأن يقوم صلى الله عليه وآله الليل ويحيه بالصلاة،إما نصفه أو ينقص من النصف قليلا،أو يزيد عليه قليلا، فهو مخير في ذلك.
وقيل أن المعنى : أن يقوم الليل كله،إلا قليلا منه،أي إلا الليالي القليلة، التي يكون فيها مريضا،أو ما شابه ذلك من أمور تعيقه عن القيام وليس من السهل أن يواظب الإنسان على قيام الليل طيلة حياته،ليحيي نصفه أو أكثر بالصلاة والعبادة،هذا إضافة إلى مسؤولياته الأخرى الكبيرة، وإلى ما هو مطلوب منه من تجسيد لكل التعاليم الإسلامية الأخرى،التي
لا يصح أن ينحرف عنها ولو مقدار شعرة،كونه صلى الله عليه وآله نبي هذا الدين،وقدوة المسلمين وأسوتهم،كما يقول سبحانه وتعالى : (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة وكونه صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين أسوة وقدوة،فلا بد أن يكون مجسدا لكل التعاليم،متحليا بكل القيم والفضائل،متنزها عن كل القبائح والرذائل.
ولا شك أن هذا أمر شاق وعسير على النفس، ويضيق به الصدر،ما لم يكن هناك مدد إلهي، وفيوضات ربانية خاصة،من أهمها شرح صدره،لئلا يضيق بتطبيق الشريعة ذرعا.وبفضل شرح صدر رسول الله،أصبح صلى الله عليه وآله الإنسان الكامل،في كل أموره العبادية والأخلاقية والاجتماعية…وغيرها،حتى امتدح القرآن الكريم أخلاقه بقوله جل وعلا : (وإنك لعلى خلق عظيم)
أما عبادته فقد أجهد نفسه الشريفة فيها،حتى نزل عليه الوحي الإلهي المقدس،يأمره بأن يرحم نفسه،ويخفف من عبادته، ولا يشقيها ويتعبها بكثرة ما يقوم به من عبادة منقطعة النظير ،كما في قول الحق جل وعز : (طه، ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى) إلى غير ذلك من سائر شؤونه وأحواله،الدالة على تفرده وكماله،وتقدمه على غيره في كل فضائله ومآثره ومكرماته،صلى الله عليه وآله وسلم-كل ذلك ببركة شرح صدره، وتوسعته لفيهم الدعوة من جهة،والتلبس بها في القول والعمل من جهة أخرى.
شرح صدره ليتمكن من تبليغ الرسالة :
هذا هو الهدف الثالث من أهداف شرح صدر النبي صلى الله عليه وآله،وهو أن ذلك من أجل أن يتمكن من حمل الرسالة وتبليغها إلى الناس فإن العمل في حقل الدعوة إلى الله تعالى والقيام بوظيفة الإصلاح الاجتماعي،والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،ومحاولة إخراج الناس من الظلمات إلى النور،ومحاربة البدع والخرافات والوقوف في وجه الظلم والفساد…ليس بالعمل السهل اليسر،الذي يكون باستطاعة كل فرد من الناس أن يقوم به، ويؤديه بنجاح،وإنما هو عمل شاق وعسير جداً،كما نلاحظ ذلك من خلال الطلبات،التي طلبها نبي الله موسى بن عمران عليه السلام من ربه تبارك وتعالى،حينما بعثه الله جل وعلا نبياً،وكلّفه بحمل أعباء الدعوة الإلهية،وتبليغها إلـى الناس .
وقد ذكر القرآن الكريم هذه الطلبات في سورة طه،في قوله تعالى حاكياً مطالب موسى عليه السلام ،حيث : (قال ربِ اشرح لي صدري،ويسر لي أمري، واحلل عقدة من لساني، يفقهوا قولي، واجعل ليّ وزيراً من أهلي ،هارون أخي،أشدد به أزري، وأشركه في أمري) فنبي الله موسى صلوات الله وسلامه عليه يطلب من الله عز وجل العون والمساعدة على حمل الرسالة وتبليغها،بتحقيق المطالب التالية :
1/ شرح الصدر .
فنبي الله موسى عليه السلام،يطلب من الله أن يشرح صدره ويوسعه له، لكي يتمكن من حمل الرسالة،وتحمل أعبائها فلا يضيق بها صدره.
2/ تيسير الأمر.
فنبي الله موسى عليه السلام يطلب من الله جل وعلا أن يسهل عليه ما أمره به من تبليغ الرسالة.وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على أن تبليغ الرسالة الإلهية إلى الناس، ودعوتهم إلى الله، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر،صعب مستصعب، وهو بحاجة إلى العون، والمدد الإلهي.
3/ حل عقدة اللسان.
وهذا يعني أن الداعية بحاجة إلى طلاقة اللسان وفصاحته وبلاغته،حتى يستطيع التوضيح والبيان، ليفقه الجميع قوله، ويفهمون قصده ومراده.
4/ شد أزره بأخيه.
فهو صلوات الله عليه يطلب من الله تعالى أن يجعل له وزيراً من أهله، ويبينه أنه هارون.والوزير فعيل،من الوزر بالكسر فالسكون،بمعنى الحمل الثقيل،وسمي الوزير وزيراً،لأنه يحمل ثقل حمل الملك وقيل : الوزير من الوزر بفتحتين،بمعنى الجبل الذي يلتجأ إليه،سمي به لأن الملك يلجأ إليه في آرائه وأحكامه وشدائده.
ولهذا ذكر الفخر الرازي في تفسير قوله تعالى: (واجعل ليّ وزيراً من أهلي)احتمالين،أولهما ــ وهو الشاهد ــ أن نبي الله موسى عليه السلام طلب ذلك لأنه خاف من نفسه العجز عن القيام بذلك الأمر،فطلب المعين.وقد صح من طرق الخاصة والعامة أن النبي صلى الله عليه وآله دعا بهذا الدعاء الذي دعا به موسى بنصه،في حق أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب،عندما تصدق عليه السلام بخاتمه وهو في حال الركوع من صلاته ،والخبر في ذلك أشهر من أن يذكر.
ومن كل ما تقدم يتبين لنا أن العمل في حقل الدعوة إلى الله،وإخراج الناس من ظلمات الكفر والوثنية،إلى أنوار اليقين والإيمان بالله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،صعب جداً،ولا يتهيأ لكل أحد القيام به،إلا بالعون والتوفيق من الله عز وجل.
ومنشأ الصعوبة يكمن في كون الدعوة إلى الله، تختلف عن الدعوات الأخرى اختلافاً كلياً،فهي ليست من باب البيان،الذي تنشره وسائل الإعلام لإبلاغ الشعب بقرار حكومي معين،وليست من باب البلاغ،الذي يقوم بإيصاله رجل الأمن إلى أحد الأشخاص،ليخبره أنه أحد المطلوبين للعدالة.
فهذه عملية سهلة، وباستطاعة كل أحد من الناس أن يقوم بها على أكمل وجه،إذ ليس على وسائل الإعلام إلا أن تنشر البيان في وسائلها،ثم ينتهي دورها بالمرة،وليس على رجل الأمن إلا أن يتسلم الخطاب من يد العدالة،ثم يضعه في يد الشخص المطلوب،وتنتهي مهمته بذلك.
ولكن الرسالة الإلهية لا تقتصر على حمل الرسول لها،وقيامه بتبليغها إلى الناس فقط،فمهمة الرسول أكبر من ذلك بكثير،إذ أنه لا يكتفي بتبليغ الرسالة إلى الناس،وإنما يحاول أيضاً أن يوصلها إلى عقولهم،وذلك عن طريق شرح مضامينها، ودعوتهم إلى اعتناقها والإيمان بها،وتقديم الأدلة والبراهين التي توضح للناس الحق،وتنير لهم السبيل،وتجعلهم يقبلون تلك الرسالة بالقناعة التامة،حيث لا إكراه في الدين.
ولا يكتفي الداعية الإلهي بهذا،وإنما يحاول أيضاً أن يصل إلى قلوب الناس كما وصل إلى عقولهم،ليجعلهم يرتبطون به وبرسالته عاطفياً،كما ارتبطوا به عقائدياً،ليكون قد ملك العقول والقلوب معا، فيستطيع من خلال ذلك أن يحررهم من ذل العبودية للشهوات والطواغيت،إلى عز العبودية والطاعة لله العظيم،ولينقذهم من الضلالة،ويبصرهم من العماية،ويحررهم من القيود والأغلال التي تشدهم إلى الأرض وتربطهم بالحياة الدنيا المحرمة،لينعموا بالحرية الحقيقية،ويرتبطوا بالملكوت الأعلى،حيث الله والدار الآخرة والنعيم المقيم والشيء المهم الذي يجب أن نلتفت إليه هنا،هو أن مستويات الناس العلمية والثقافية مختلفة
كما أن إدراكاتهم العقلية متفاوتة، فهناك الفيلسوف والحكيم و والمفكر…ولكن في المقابل هناك الفلاح والنجار والخباز …وأمثالهم من عامة الناس،كما أن طباعهم مختلفة،فهذا إنسان سريع الغضب والانفعال، والآخر انطوائي على نفسه ،والثالث عاطفي..والعاشر متبلد الحس والمشاعر…وهكذا كل شخصية لها أبعاد مختلفة عن أبعاد الشخصية الأخرى في كل شيء.والنبي مطلوب منه أن يتعامل مع كل هذه الطبقات،وينفتح على كل هذه الشرائح،ويتعامل مع كل هذه الأجناس،ويوصل صوت الرسالة إليهم جميعهم،وأن يكلمهم وفق علومهم وإدراكهم، فلغته في دعوته العلماء والمفكرين،تختلف عن لغته في دعوة البسطاء والجهلاء والعامة من الناس،
فذاك يتحدث معه بالدليل العلمي ،والآخر بالدليل العقلي، وغيره بالموعظة والنصيحة …وهكذا،وقد قيل أن معنى قوله تعالى : (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) إنما تعني هذا المعنى الذي شرحناه إجمالا،بأن يكلم النبي كل إنسان بما يليق به،وبما يناسب عقله وفهمه،ويتوافق مع طبيعته وطريقته.
وأنى للإنسان أن يجيد هذا الفن من التعامل بنجاح مع كل الطبقات والشرائح الاجتماعية؟لاشك أنه ليس في قدرة كل أحد أن يقوم بذلك،ولك أن تشاهد نفسك كيف تحتار أحيانا حتى في مخاطبة أطفالك،لعجزك عن النزول إلى حدود عقولهم الصغيرة،ولك أيضا أن تطلب من أحد علماء الكلام أو الفلاسفة أن يكتبوا كتابا في العقيدة أو الفلسفة، يكون بلغة سهلة وواضحة ،وخالية من المفاهيم المعقدة،والمصطلحات المبهمة،التي هي أشبه شيء بالرموز والطلاسم، لتراهم يعتذرون إليك عن ذلك بعدم قدرتهم،لأن طبيعة تلك المواضيع تحتم عليهم الحديث بلغة خاصة، وتجبرهم على استخدام مصطلحات،لا يجدون بدا من استخدامها.
وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على عجز الإنسان،وعدم قدرته من التعامل مع كل الطبقات ،وإيصال كل ما يريده إليهم،وقد نقل أنه مكتوب على مدرسة أفلاطون،كلمة لا أتذكر نصها الآن،ولكنها بمعنى : هذه المدرسة لا يدخلها إلا الفلاسفة.
وعدوا ذلك من ضمن مناقب أفلاطون،ومن دلال عبقريته،مع أننا لو تأملنا لرأينا أن العكس هو الصحيح،فهذا من دلائل عجز أفلاطون،وعدم قدرته من الحديث إلا مع طبقة خاصة من الناس. والذي لا يستطيع أن يتعامل إلا مع فئة معينة من الناس،ويعجز عن التعامل مع الفئات الأخرى، لا أنه يعاني القص والقصور،كما أن ذلك سيعيقه إعاقة كاملة عن إيصال صوته إلى الجميع، مما يحد من انتشار رسالته ،ويجعلها محصورة في أناس دو ن آخرين،ولو كانت المدرسة الإسلامية كذلك،لكانت مدرسة ناقصة ،ولما أمكن أن يستفيد الجميع منها،بل لكان فائدتها محدودة جدا، ومحصورة في فئة خاصة من الناس.
ولكن ما يدعو إلى الفخر والاعتزاز،هو أن المدرسة الإسلامية متاحة لجميع الناس،باختلاف مستوياتهم العلمية والفكرية والعقلية…،فالناس كلهم يمكنهم الالتحاق بها،والنهل من علومها،والاستفادة من معارفها،وإن مؤسسها، والمعلم فيها،وهو النبي الأعظم الأكرم عليه وآله السلام،متمكن من إعطاء الدروس للجميع،كل بحسب قدراته ومستواه،فهو صلى الله عليه وآله يعرف كيف يشرح رسالته للفلاسفة والحكماء،كما يعرف كيف يوصلها إلى رعاة الغنم والإبل في الصحراء.
ولو فكرنا فقط في هذا الأمر،لرأيناه ينطوي على العجب العجاب!فأي إنسان هذا الذي يستطيع التعامل مع الناس كلهم،وبدون استثناء بنجاح،ويوصل إليهم صوته ويبلغهم رسالته، غير الرسل والأنبياء،لاسيما سيدهم وخاتمهم نبينا الأكرم صلى الله عليه وآله وأنى لهؤلاء الرسل الكرام العظام أن يتمكنوا من ذلك ما لم يكونوا مؤيدين من قبل رب العالمين،الذي شرح صدورهم،ومكنهم من التعامل مع كل إنسان،دون أن تضيق به صدورهم.وسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين حين قال: (إنا معاشر الأنبياء،أُمرنا أن نخاطب الناس على قدر عقولهم)
والنبي في دعوته ليس مطلوبا منه أن يتعامل مع كل طبقات المجتمع فقط، بل وأن يتحمل أذاهم أيضا، إذ أن طريق الدعوة إلى الله ليس ممهدا،ومفروشا بالورود والرياحين،وليس كل الناس سيقبلون عليها، ويؤمنون بها،بل أن لها من الأعداء الأشداء،الذين سيحاربونها بكل ما أوتوا من قوة،ولن يهدأ لهم بال ولن يغمض لهم جفن،ما لم يقضوا على صوتها الهادر الذي يقض مضاجعهم ويهدد مصالحهم.
وهذا ما نراه جليا وواضحا في سيرة رسول الله الأعظم صلى الله عليه وآله ،الذي ناصبه قومه العداء، فوضعوا الأشواك في طريقه،ورموا القمامة على باب داره،ورجموه بالحجارة حتى أدموا قدميه ،وتآمروا على قتله حتى اضطروه إلى الهجرة،وخاضوا ضده الحروب حتى كسروا رباعيته،وشجوا جبينه، وأسالوا الدماء على وجه…ولكنه كان صلى الله عليه وآله صابرا محتسبا مسلما…بل لم يزد عليه وآله أفضل الصلاة،وأزكى السلام على أن قال : (اللهم أهد قومي فإنهم لا يعلمون)
بل كان صلى الله عليه وآله يواجه الضغوط الكبيرة، حتى من بعض أصحابه، الذين آمنوا برسالته،كما هو الحال في جمعه بين الفقراء والأغنياء،إذ ربما تأفف بعض الأغنياء والمترفين من ذلك، وطالبوه صلى الله عليه وآله أن لا يجمع بينهم وبين سائر الناس،ممن هم أقل منهم درجات،لكنه عليه وآله السلام استطاع أن يؤلف القلوب،ويوحد الكلمة ،ويجمع الصفوف،وينجح في القضاء على كل رواسب الجاهلية،ولم يضق صدره بما يفعله السفهاء من قومه وأصحابه.
هذه هي وظيفة الرسل والأنبياء،إنها عملية تغييريه كاملة،هدفها غسل النفس الإنسانية، وتنظيفها من الأدران،وإصلاح الإنسان، وتصحيح مساره في الحياة ،ودعوة كل قوم بلسانهم ولغتهم التي يفهمونها، والصبر على الأذى في جنب الله…إلى ما هنالك من مهام ووظائف مناطة بالرسل والأنبياء،لاسيما خاتمهم وسيدهم رسولنا الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله.
وهي عملية شاقة وعسيرة إلى حد كبير
قد يبذل الداعية الإلهي في سبيلها قصارى جهده، ويحاول تحقيقها ما استطاع إلى ذلك سبيلا، لكنه ــ رغم ذلك كله ــ لا يحصل على كل ما يريد وهذا القرآن الكريم يحدثنا عن نبي الله نوح،ويخبرنا أنه عليه السلام دعا قومه ليلاً ونهاراً، وسراً وجهاراً، فلم تزدهم دعوته إلا فرارا ،لأنه كلما دعاهم إلى الحق والهدى (جعلوا أصابعهم في آذانهم،واستغشوا ثيابهم،وأصروا واستكبروا استكبارا) وقد لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما، وكانت النتيجة أنه لم يؤمن به من قومه إلا قليل.
لذا نحن نؤكد على أن العمل في حقل الدعوة صعب وشاق،بل هو أصعب الأعمال وأثقلها، وأن الداعية يلاقي من العناء والتعب والإرهاق الفكري والنفسي والجسدي،مالا يلاقيه غيره من الناس،وأنه بحاجة ماسة جدا إلى أن يشرح الله له صدره ويوسعه،فلا يضيق بالدعوة وعلومها وتطبيقها،ودعوة الناس إليها ذرعا.
وهذا ما فعله الله سبحانه وتعالى برسوله المصطفى صلى الله عليه وآله،إذ شرح له صدره، وامتن عليه بهذه النعمة الجسيمة العظيمة،بقوله عز وجل : (ألم نشرح لك صدرك) وبهذا البيان نفهم أن قوله تعالى بعدها : (وضعنا عنك وزرك) ليس بمعنى أنه كانت على رسول الله أوزار وذنوب، وضعها الله عنه وطهره منها،كما قد يتوهم البعض ذلك،بل ويذهب إليه بعض المفسرين،ممن لم يتعمقوا في فهم القرآن الكريم، والتدبر في آياته البينات، ولا يعرفوا قدر رسول الله ،وأنه النبي المعصوم، الذي لم تكن عليه أوزار وذنوب ليضعها الله عنه.
وإنما المعنى هو أننا شرحنا لك صدرك،فوضعنا عنك بذلك كل أثقال الرسالة،التي لولا أن شرحنا صدرك لها،وإلا لنقضت ظهرك وكسرته لثقلها وعظمتها
بقلم الشيخ / علي عساكر[/JUSTIFY]